أحاول تفهم الشعور الجمعى بأن البلاد فى حالة حرب، وربما يسعد المجموع بهذا الشعور، أكشن كده وبتاع. لكننى لا أرى مناخا صحيا فى ذلك.
الحقيقة أن البلاد ليست فى حالة حرب، وإنما هى فى حالة تخلص من نتوء مشوه برز فى جسدها، ولا بد من التعامل معه، ونحمد الله أن لدينا مَن يمكنه التعامل، لأن القوى الثورية ببساطة، ليس لديها الإمكانية اللوجيستية، أو حتى النفسية، لاتخاذ التدابير اللازمة للخلاص من هذا التشوه، وقد يتم اتخاذ إجراءات تُحدث بعض الألم فى الجسد، وقد تحدث أشياء تُشعِر بعضنا بالنفور أو التقزز، لذلك، فليس من المفترض أن يقوم الجراح باصطحاب الجماهير معه وهو يقوم بعملية جراحية، لأنه من الطبيعى أن تفزع الجماهير من مشاهد فتح البطن واستخراج الأحشاء اللازمة للجراحة.
تنتهج الدولة أسلوبا سيؤدى فى النهاية إلى إصابة الجماهير بلوثة جماعية، إلى جانب تأكيداتنا المتكررة لضرورة عدم الاعتماد على الحلول الأمنية المَحْضَة، فالحل الأمنى ضرورى لأنه يحاصر التحرك، وواجب علينا أن نتابعه حتى لا يتوحش، لكنه لا يقضى على الأفكار، ولا يمنع التعاطف، هذا بخلاف أن الشحن الأمنى الإعلامى المستمر سينتج شعبا دمويا أو معترضا.
وهنا تحضرنى جملة فى خطاب السيسى الثانى، وهى عبارة أثّرت فى المجموع بشكل كبير، وظل الناس يتداولونها لفترة وهم يُبدون التأثر، وذلك حين قال: هذا الشعب الذى عانى كثيرا ولم يجد مَن يحنو عليه.
هو ما زال لا يجد مَن يحنو عليه حتى الآن، فأى عقل ذلك الذى يقبل بأن تضع شعبا أمام إعلام «جوبلزىّ»، لا يكفّ عن توزيع الاتهامات بالعمالة والخيانة، واستنفار الناس جميعا كى يقوموا بحماية الأمن القومى، وهى مهمة ليست من تخصص المواطنين العزل، ثم ينقله إلى مشاهدة صور لجثث وأشلاء ودماء، ثم يرسل إلى أبنائه ضباط شرطة وجيش فى المدارس، ثم يلسوعه، ويطفئ كشافات النور فى الشوارع قبل موعد الحظر بساعة، حتى يركض كالملدوع بالسيارات والحافلات كى يصل إلى منزله قبل موعد الحظر، كل ذلك وأنت تحاصره بشائعات وتسريبات حول ما يسمى بـ«الجهات السيادية» وبعد ذلك كله تنتظر منه أن يكون شعبا سويًّا ولطيفا وطيبا؟ وكل ذلك بعد أن مر بعامين ونصف من الإنهاك والاعتصامات والتظاهرات، ومشاهدة الدماء، والحيرة، والخذلان من كل من وثق بهم، والغدر ممن أعطاهم صوته... طيب يعنى ستة أشهر كمان وستتحول مصر إلى عنبر العقلاء بهذا الشكل!
أعرف أننا نواجه عدوًّا حقيقيًّا، وأن الإخوان حاجة فظيعة.. فظيعة.. فظيييييعةةةةة، ويكفى ما تمارسه الجماعة وأنصارها من ضغوط على المواطنين والبلاد، بل ويتباهى أنصار المعزول بأنهم يخلقون فوضى فى البلاد، ويهددون الناس بعبارات مثل: «وانتو فاكرين فى انتخابات حتتعمل؟ ابقوا قابلونا».. أو «أول ما حنرجع حندّيكو بالجزمة يا شعب عبيد.. إحنا غلطنا أيام مرسى عشان عاملناكو بذوق!»، لكننى لا أرى فعلا مبررا لكل هذا الشحن الجوبلزىّ، وإيهام الناس بأننا فى حالة حرب حقيقية لعدة أسباب:
أولا- لأن الشعب المصرى قد أسقط الجماعة بالفعل، بل والإسلام السياسى من جذوره، ولم يعد من الممكن أن ينخدع مرة أخرى، اللهم إلا إذا أصر الإعلام على تسخير أحمد موسى ومن شابهه لاستدرار العطف حيال الجماعة من حيث يرغبون هم فى مهاجمتهم.
ثانيا- لأن الجماعة بالفعل ثبت أنها ضعيفة وغبية وحمقاء، وعلى الرغم من أنها حشدت كل قوتها، بل وما زالت تمارس صنيعتها الأولى وهى القيام بخديعة عدد من الشباب بدعوى التصدى لعودة الدولة الأمنية، ومع ذلك، وعلى الرغم من أنها تعمل بكامل طاقتها، وبكامل خلاياها النائمة والميتة، فإنها فاشلة حتى الآن، ولن يُنجحها جهدها بقدر ما سيسهِّل عليها المهمة أخطاء خصومها.
أرى شعبا مرهَقًا، وبلادا مستنزَفة، ولا أحد يرحم أو يرفق، هذا الشعب بالفعل يحتاج إلى قليل من الفن، قليل من الراحة، شعور بالنجاح أو التحقق أو الإنجاز فى أى مجال، مكافأة على صبره وصموده. ولا أدرى لماذا لا يستخدم النظام الانتقالى القوة الناعمة كإعلام احترافى، أو فنٍّ راقٍ، أو نشاطات ثقافية، للتصدى لمحاولات الجماعة وأنصارها فى استنزاف البلاد وعقوبة الشعب، وفى ذات الوقت تخفف قليلا عن المجموع الذى شارف على ارتداء سروال بيجامة، ومعطف مهترئ، واضعا غطيان الكازوزة على جيب معطفه، وبرنيطة فاكهة فوق رأسه، واقفا فى ميدان رمسيس وهو يصرخ: الأمن القومى فى خطر.