تدخل الكهرباء إلى الريف لتطرد عنه الأشباح والخزعبلات، وتتيح له أن يسبح فى النور، وفى بحار التكنولوجيا المعرفية، ليتواصل مع الأفكار الحضرية، ويتمدن ويتبنى قيم الحداثة، وباقترابه خطوة بعد أخرى من المدينة يخلع عمامة الفصل فى النزاعات بين أفراده بالأحكام العرفية القادمة من أعماق الماضى، ويلفظ فكرة أن البرىء هو المتهم الذى يمكنه أن يلحس طاسة ملتهبة إلى درجة الاحمرار بلسانه دون أن يصرخ، أو يعبر بقدميه العاريتين فوق جمر ملتهب دون أن يتأذى! يدخل النور إلى الريف فيرتدى ثوب الحكم بالقانون، ويرتضى فكرة المواطنة والتساوى فى الحقوق والواجبات. بينما يهجم الفكر الريفى على المدينة ليضرب الكرسى فى المصباح ويقطع عنها النور ويطلق سراح أبو رجل مسلوخة والنداهة وأمنا الغولة فى طرقاتها ليرضخها لقبول فكرة الحكم بأعراف القبيلة والعشيرة. الصراع يدور الآن على وجه التحديد بين أبناء المدينة الذين قالوا لا لتقليص حرياتهم، وبين أهلنا الريفيين البسطاء ضحايا سنوات مبارك العجاف، الذين يحشدهم الإخوان لتعطيل مصالح الناس كما اعتادوا أن يحشدوهم لحصار المحاكم وضرب المعارضين على اعتبار أن سقوط الإخوان حلقة فى سلسلة الحرب ضد الإسلام! هذا المشهد يرمز بوضوح إلى الصراع بين قيم الحداثة التى لا ترضى بأقل من حكم القانون بين مواطنين متساويين فى الحقوق والحريات، وبين حكم العمائم الذى يميز ويصنف بين الناس على أساس العقيدة والعرق والنوع. استخدام المنطق البسيط يفسر لنا لماذا تقع مقاليد الحكم دائما بعد الثورات فى يد أشد التيارات بعدا عن قيم الحداثة فى أغلب البلاد التى تنتفض ضد الظلم والديكتاتورية. يحدث هذا لأن غياب العدالة الاجتماعية لعقود طويلة يؤدى إلى زيادة الجهل والفقر، اللذين يؤديان بدورهما إلى هدم القيم الحضرية، وترييف المدن، وتجريف العقل الجمعى، وتديين السياسة لتصعيد تيارات تكفيرية تبشر بنموذج دولة عادلة وهمية يغلفها سحر التاريخ، تنتمى إلى الماضى السحيق، وتخاصم قيم الحداثة وتزعم للمظلومين أن سبب كل مشكلاتهم الحياتية هو أنهم أغضبوا الله بابتعادهم عن الدين من وجهة نظرهم التكفيرية المتزمتة. رغم أن السبب الحقيقى لمآسيهم هو تقاعسهم عن التمرد لرفع الظلم. تتراكم الأزمات بمرور السنوات وتنطلق الثورة من المدن التى تم تجريف عقول أهلها، وترييف وتزييف وعيها، وتغريبها عن العصر الذى تعيش فيه، تقودها طليعة ثورية تنجح مع شعبها فى هدم أركان النظام القديم، ليتم بعدها، مع الأسف، منح قيادة المرحلة الجديدة بطريقة ديمقراطية، وباختيار الشعب، لتيارات دينية قادمة من عمق التاريخ. كنتيجة طبيعية لترييف مجتمع مسحوق ينفر من القيم الحضرية ويعتبرها مصدرا لكل الشرور! مجتمع تعيس مغدور يربط تقديس المدينة لحريتها وإبداعها بالكفر والفجور بدلا من أن يدرك استحالة حدوث النهضة فى غياب الحرية والفكر المبدع! تمر الأيام ويتم افتضاح تلك التيارات الظلامية وقلة حيلتها بعد وصولها إلى الحكم، ليتضح بعدها للجميع أنها تفتقر إلى فهم العصر، وغير قادرة على تقديم نموذج لدولة قادرة عفية تنهض بالمجتمع. يتضح ذلك عندما تفشل فى حل المشكلات الحياتية باستنساخها لأنموذج دولة ممسوخة تعيش بجسدها فى الزمن الحاضر وتفكر بعقلية القرن السابع الميلادى فى أفضل أحوالها، دولة عاطلة عن الإبداع، تسحق الحريات وحقوق المواطنة، وتعجز عن تحقيق عدالة اجتماعية لم تتحقق قديما فى دولة الخلافة، التى تعيد استنساخ قوانينها، إلا لبضع سنوات قليلة على يد حكام استثنائيين يصعب تكرارهم، تحول بعدهم تاريخ الحكم الرشيد إلى صراع على توريث الملك. يتأزم الأمر عندما تكرس الدولة الدينية لفكرة أن الحقوق تمنح فقط لأفراد العشيرة فتدفع بذلك أنصارها إلى الشعور بالأفضلية باعتبارهم شعب الله المختار، وإلى الانعزال فى صحراء قناعاتهم البدائية التى تربى أفرادهم على فكرة التفوق الزائف، وتدفعهم إلى الارتماء فى أحضان أحط المشاعر الحيوانية التى تحرم الآخر الذى لا ينتمى إلى قبيلتهم من التمتع بالحقوق والحريات التى تهدرها التفرقة بين المواطنين. لا مفر من الاعتراف بأن تحقيق الرخاء والعدالة الاجتماعية يقترن ببناء الدولة الحديثة التى تتقرب إلى الله بالتزامها بتطبيق القانون على الجميع باختلاف عقائدهم. سياسات الكذب والخداع التى يمارس أصحابها كل الشرور وهم يتمسحون بالدين لن تؤدى إلا إلى الانحطاط الاقتصادى والاجتماعى وعربدة أبو رجل مسلوخة والنداهة وأمنا الغولة فى طرقات المدينة!
أبو رجل مسلوخة يحكم المدينة!
مقالات -
نشر:
1/10/2013 6:13 ص
–
تحديث
1/10/2013 9:24 ص