يقول الروائى والكاتب حمدى أبو جليل إنه أنجز كتابه (شوارع القاهرة) بالصدفة، إذ إنه كان يبحث عن موضوعات لعمله الصحفى تتناسب مع كسله وافتقاره إلى حاسة البحث عن الأخبار، فجاءت فكرة الكتاب كحل أخير لاستمراره فى مزاولة المهنة، فبدأ فى كتابة حلقات عن شوارع القاهرة شكّلت مادة هذا الكتاب القيم الممتع الصادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب فى قطع كبير وبسعر لا يتجاوز الـ25 جنيها، على الرغم من صفحاته التى تزيد على الخمسمئة.
أسرار شوارع القاهرة وخبايا التاريخ المكتوب على هامشها وفى أزقتها الضيقة وشوارعها الجانبية كل هذا استطاع أبو جليل أن يرصده بعين الصحفى أحيانا، ولكن كانت عين الروائى ماثلة طول الوقت تلتقط ما يحفل به التاريخ من دراما. فى هذا الكتاب ستتعرف على حال الشعب إذا ما جاور قصر الحكم، وكيف ينتقل الشارع بناسه إلى خانة التهميش مثلما حدث مع أهل شارع (الخرنفش) فى مصر القديمة عندما كان ساحة الأمراء والوزراء وقلب القاهرة الملكى قبل أن ينتقل صلاح الدين الأيوبى بالدولة إلى قلعته الشهيرة، ثم انتقال الخديو إسماعيل بالدولة إلى منطقة أبعد (عابدين) فسقط الشارع وناسه فى شَرَك التجاهل؟!
ستتعرف على سر تسمية القاهرة التى بناها جوهر الصقلى، وكان قد أعد التخطيط الرسمى لها فى انتظار إشارة بدء العمل اعتمادا على المنجمين والسحرة المغاربة الذين بدؤوا فى مطالعة الكواكب والنجوم فى انتظار اللحظة التاريخية الجديرة بالبدء فى العمل، وفى انتظار الإشارة وقف غراب فوق أحد الأعمدة وطالت وقفته المميزة فاعتقد العمال أنها الإشارة فانطلقوا فى وضع الأساسات، كانت الإشارة كاذبة وعندما عرف الصقلى بالموضوع انزعج، وعندما علم أن كوكب المريخ (القاهر) فى صعود قرر أن يسمى المدينة (القاهرة) نسبة إلى هذا الطالع غير السعيد أملًا فى أن يكسر سم هذا الفأل المشؤوم، وهذا ما تحقق بالفعل على الأقل فى عهد الفاطميين، حيث أصبحت القاهرة أفخم وأهم مدن العالم.
وعن ميدان عابدين يقودنا التجول فى تاريخه إلى اللحظة التى اندلعت فيها شرارة حريق القاهرة فى الخمسينيات، ففى شرفة كباريه بديعة مصابنى فى هذا الميدان كان يجلس أحد ضباط الجيش يحتسى الخمر فى صحبة إحدى مضيفات الكباريه، وفى ذروة استمتاعه اقترب منه أحد الوطنيين المصريين ووجه إليه اللوم، لأنه يمتع نفسه بهذه الطريقة المبتذلة، بينما رفاقه يُذبحون فى الإسماعيلية برصاص الإنجليز، ووقع بينهم شجار كبير أدى إلى اندفاع المارة إلى الكباريه وصبوا البرافين، مادة حارقة، على الأثاث فاشتعل المكان فى ثوان، بعدها انطلق الرجال محملين بالبرافين يجوبون أنحاء العاصمة بطريقة شبه منظمة لإشعال النار فى كل ما هو بريطانى أو يهودى.
ستعرف من (الشيخ ريحان) وسر صراعه مع السلطان (حسين كامل) الذى حسمته ثورة يوليو، وستكتشف أن أشهر الشوارع التجارية فى مصر (شارع عبد العزيز) تم تمهيده وافتتاحه ليخطو فوقه السلطان العثمانى عبد العزيز الذى شرف مصر بالزيارة، وكان إطلاق اسمه على الشارع رسالة من الخديو إسماعيل، مفادها أنْ ستظل مصر خاضعة للتاج العثمانى. وعلى هامش الرحلة ستتعرف إلى ألعاب التاريخ التى شهدها الشارع، بداية من تمركز جمال الدين الأفغانى به مرورا بالثورة، ثم عصر الانفتاح نهاية بهجوم النمور الآسيوية بمنتجاتها، (المبتديان) كلمة تركية معناها (المدرسة الابتدائية) وهذه المدرسة التى اعتمد الخديو إسماعيل رسميا خريجيها كانت نقطة إعمار المنطقة، لكن تاريخ المنطقة يحفل بحكايات على الهامش مثل قضية التلغراف التى كان الشيخ على يوسف متهما فيها، والتى سرعان ما حصل فيها على البراءة ليتحول إلى حديث المصريين من جديد بقصة غرامه وزواجه بـ(صفية السادات) وهى قصة معقدة وبالغة الدراما، لا يكفى المجال هنا لحكيها، من الشيخ (عبد الله التكرورى) الذى ينسب إليه (بولاق التكرور) أو الدكرور فى ما بعد، إلى صراعات السيد أحمد (الرويعى) شهبندر التجار، إلى شهاب الدين (العينى) صاحب قصر العينى الذى تحول إلى لعنة فى حياته، فقد كان شهاب الدين أميرا للمحمل، الحج، فبنى قصرا كبيرا وأصر على أن لا يدخله أحد قبل السلطان (خوش قدم) وهذا ما حدث فعلا، لكن الوشاية جعلته يفقد ثروته وقصره ثم يهرب إلى مكة، بعدها استولى بكوات المماليك على القصر وحوله إلى مكان للحبس الجبرى وسجن للوالى المنفى، ثم حوله نابليون بونابرت إلى مستشفى لجنود حملته، ثم سرعان ما نشب النضال فقتل سليمان الحلبى الجنرال الفرنسى كليبر، تم القبض على الحلبى وإعدامه ثم قاموا بدفنه فى حديقة هذا القصر ثم رحلوا عن مصر بعدها.