ختمت سطور أمس بأن «الفوضوية» تتوجس من «الدولة» وتعاديها باعتبارها تنظيما اجتماعيا مستحدثا يفرض قيودا على حريات البشر، وقد ظلت هذه النظرية نُتَفًا وهواجس فكرية تظهر وتخبو فى عقول بعض المفكرين منذ مطلع شباب الفلسفة، إلى أن جاء القرن التاسع عشر فتحولت إلى مذهب سياسى (أوروبى المنشأ والمآل) يتمتع بقدر معقول من التماسك، لكنها قبل أن تضمحل وتتحول إلى مجرد «أثر» و«فلكلور فكرى» بسبب العنف والهوج اللذين دنّسا سمعتها وأخافا الناس منها، كانت قد انقسمت وسارت فى اتجاهات ثلاثة متباينة وربما متعاكسة أيضا، أولها ينسب إلى الأديب والمفكر الروسى الكبير ليون تولستوى واصطلح على تسميته «الفوضوية الدينية»، والاتجاه الثانى «فوضوية شيوعية» أو اشتراكية، رفع لواءها الروسيان «باكونين» و«كروبتكين» إضافة إلى المفكر الفرنسى بيير جوزيف بردون، والثالث «الفوضوية الفردية» التى أبرز وأهم منظريها المفكر الألمانى ماكس شتيرنر.
فأما فوضوية تولستوى الدينية، فقد رسم ملامحها هذا المبدع العظيم، وهو يتحدث عن حلمه بمجتمع جديد مثالى خالٍ من «الملكية» الخاصة للثروة ومتحرر من وجود «الدولة»، فهذه الأخيرة تمنع وتشوشر على «الحب المسيحى» وتفسد العلاقة النقية بين الإنسان وربه «التى يجب أن تكون علاقة حب خالصة منزهة ونقية من مشاعر الخوف والرهبة، وأن تبقى مباشرة وتلقائية لا تمر عبر أى تنظيم أو طقوس»، والدولة عند هذا الفنان المتصوف «تنوِّم المواطنين باسم الوطن، كما أنها تفسدهم عندما تستأجر منهم موظفين يستعبدون باقى الشعب، وهى تروعهم وتخيفهم، لأنها تمنح نفسها القداسة والسلطان الذى بمقتضاه ترسلهم إلى التهلكة فى الحروب»!!
وعلى عكس هذه الرؤية «الفوضوية» الحالمة المسالمة، تلفعت «فوضوية» برودون وباكونين وكروبتكين بعقيدة العنف المفرط فى مجابهة الدولة «حتى تنهزم وتضمحل ويزول شرها تماما، عندها يفوز الناس بحريتهم المطلقة ويتمتعون بالعدل الاجتماعى الذى يتناقض ويصطدم بكل صور الملكية الخاصة للثروة، وقد وصف برودون هذه الملكية بأنها «محض لصوصية» وأطلق صيحته المشهورة «الملكية هى السرقة»، وفى سياق المعركة الأيديولوجبة حامية الوطيس التى خاضها بيير برودون ورفاقه الروس مع الاشتراكيين والشيوعيين، فقد قال صراحة إن «الدولة» سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية، هى فى النهاية «سلطة عليا قهرية وغاشمة»، مؤكدا أن «حكم الإنسان لأخية الإنسان ليس إلا صورة من صور العبودية».
يبقى الفوضويون الفردانيون الذين يشاركون أنصار الفوضوية الشيوعية عقيدة العنف نفسها، لكنهم يخالفونهم فى كل شىء بعد ذلك، فعلى عكس الثلاثى كروبتكين وباكونين وبرودون، ينطلق ماكس شتيرنر فيلسوف هذا الصنف من الفوضوية، من حرية الإنسان الفرد وليس «الجماعة» لهذا دعا إلى تمرد كل فرد على قيود الدولة والمجتمع معًا لكى يحقق تفرده عن الآخرين ويكسب كيانه الذاتى الذى ضاع وانسحق تحت ثقل الدولة ونظمها المستبدة، فمؤسسة الدولة فى نظره ليس لها من غاية ولا هدف «إلا اضطهاد الفرد وإخضاعه وإلحاقه بشىء وهمى أكثر شمولا من الذات الشخصية التى يجب أن تبقى طليقة على فطرتها»!!
والطريف أن شتيرنر هذا أطلق لذاته العنان حتى انتهى فى السجن بسبب تراكم ديونه، وظل كاتبا ملعونا ملفوظا لا أحد يعير أفكاره وكتاباته الغزيرة أى اهتمام، حتى أتى نيتشه فيلسوف ألمانيا الكبير فاستعار الكثير من أفكار هذا الرجل، وإن لم يُشر إلى اسمه ولا مرة واحدة!!
هل تسأل: ماذا يقترح الفوضويون بديلا عن «الدولة» التى رفضوها وشَهروا بها وحَملوها بكل الشرور والموبقات؟ البديل عند أغلبهم هو شىء مسرف فى الغرابة ويلامس تنفيذه حدود المستحيل، فقد دعوا إلى ما سماه بعضهم «نظاما اتحاديا» بمقتضاه يحرر الأفراد بينهم وبين بعضهم «عقودا» تظل تتوالى وتتكرر حتى تشمل كل الناس!!
إذن، وكما ترى فـ«الفوضوية» ليست شتيمة، ولكن هى تهمة فعلا.. صباح الخير.