أكتر كلمة بنسمعها ونمدح فيها فى التربية، كلمة دى «إرادتها قوية». الإرادة القوية على كل حال ليها اتجاهين، إرادة قوية للفعل، وإرادة قوية لمقاومة الإغراء. هل تشعرين أننا نركز بشكل أكبر على الإرادة القوية لـ«المقاومة»؟
هذا إحساسى، الشخصى والسياسى والاجتماعى. إننا نمدح فى أطفالنا أنهم لا يفعلون «أخطاء» أكثر مما نمدح فيهم أنهم يجربون ويحاولون ويتحركون. ونمدح فى شبابنا أنهم «ماتطلعش منهم العيبة» أكثر مما نمدح أنهم يفعلون. ونمدح الناس أنهم لا «يغيرون آراءهم» أكثر مما نمدحهم على الإتيان بآراء جديدة مع تغير الظروف.
هذا يحولنا إلى مجتمع صفرى الأخلاق. بمعنى أن أخلاقه الممدوحة معظمها فى درجة الصفر، فى درجة الامتناع عن السالب، ممدوحة بالامتناع لا بالتنفيذ.
طيب، السؤال التالى: هل «الامتناع» له فضل فى حاجات حلوة كتير فى حياتك؟!
أنا بلاقى معظم الحاجات اللى اتعلمتها فى حياتى اتعلمتها من الاستجابة لإغراء، إغراء رحلة، أو تجربة، أو تعارف، أو انتقال من مكان إلى مكان، وأن معظم ما ندمت عليه ندمت لأننى لم أفعله. وأن هذا «الامتناع» كان غالبا متخفيا خلف شعار أخلاقى، أو مبدئى، بينما فى حقيقته كان خوفا منى من المنافسة، أو شكا فى قدرتى، أو حتى كسلا عن التحرك.
ولمارك توين مقولة فى هذا: «الحياة قصيرة، كسروا القواعد، سامحوا بسرعة، قبِّلوا على مهل، اضحكوا بلا قيود، ولا تندموا أبدا على شىء جعلكم تبتسمون. بعد عشرين عاما من الآن ستشعرون بخيبة الأمل بسبب الأشياء التى لم تفعلوها أكثر كثيرا من ندمكم على أشياء فعلتموها».
هذا الشعور ينعكس فى السياسة بهذا التمجيد المبالغ فيه لثقافة المقاومة عن ثقافة الاهتمام بالتحسين والتطوير، وإبداع طرق جديدة. كأننا نتعارك مع جيوش متخيلة، وكأننا فى ميدان التحرك منه انهزام وفرار، بينما لو توقفنا لحظة لوجدنا أن كثيرا مما نقاومه كان يمكن أن نستخدمه لصالحنا، وأن ليس لنا أى مصلحة فى الاتجاه الذى ننظر فيه.
وخلف كل حكاية لموظف أو موظفة لم يترقيا حكاية عن قصة «مقاومة للإغراء» نجحا فيها. لا أناقش هنا صواب الخيار أو عدمه، فربما يكون صائبا. إنما أناقش تمجيد فعل الرفض على فعل القبول الواعى، الواثق من نفسه، صاحب الرؤية والخطة والهدف. وكأنك ستكتبين فى سيرتك المهنية قصة مواقفك الرافضة.
إننا معنيون فى ثقافتنا بتقوية النوازع، أكثر كثيرا مما نحن معنيون بتقوية الدوافع. وخوض النزاع عندنا مروىّ بشجن، بينما خيار المناورة والمراوغة والجملة التكتيكية مهمل. حتى صرنا أمة تلعب فى الحياة بخطة الجوهرى، وتتباهى بالتعادل إن حدث، والصمود إن جاءت الهزيمة.
لقد كانت أكثر مناحى الإصلاح الدينى أثرا فى أوروبا الحديثة تمجيد قيمة العمل، والمسؤولية الفردية عن الخيارات، والتخطيط الذاتى للمستقبل. بعد خمسة قرون من تلك الحركة الاجتماعية لا تزال الخطابة السياسية الدينية الاجتماعية عندنا غارقة فى إقامة حوائط الصد، وتقوية ثقافة الممانعة والمعارك الوهمية الدونكشوتية، والقضايا المحمولة من الماضى.