هناك كتاب ظريف يباع في مكتبة مدبولي منذ سنوات.. كتبه لواء سابق (لا أدري يقينًا لواء شرطة أم جيش)، يتناول بصورة معلوماتية الفِرَق والمذاهب التي ظهرت في صدر الإسلام من شيعة وخوارج ومرجئة ومعتزلة، بالدراسة والشرح والتفصيل.
الطريف أن سيادة اللواء الذي كتب هذا الكتاب كان يتناولهم جميعًا بوصفهم فرقًا مارقة تمردت على نظام الحكم، وما بين السطور إيماءات وتعبيرات تركز في حقيقة كونهم من «المخربين» «الخارجين على قانون الدولة».
الكتاب مثير للضحك لا أنكر، إذ يبدو أول تحليل «أمني» رصين للبنية الفكرية للفِرَق والمذاهب في الإسلام.. هو ببساطة عبارة عن تناول للمذاهب من منظور أمني.. لا عقيدي كما يفعل السلفيون.. ولا فكري كما يكتب أستاذة الفلسفة.
وهي المرة الأولى التي تخضع فيها أفكار واصل بن عطاء ومعارك شبيب الشيباني وأشعار قطري بن الفجاءة وحروب المختار الثقفي لمثل هذا التناول الذي بدا أشبه بـ«تستيف» ملفات لهم في أمن الدولة حتى ولو بعد وفاتهم بنحو 13 قرنًا!.
الكتاب، كوثيقة أمنية جافة، ينتصر في النهاية إلى الدولة التي ثبتت في مواجهة كل هذه الأنواء الفكرية وما استتبعها من تحزب الفِرَق في جيوش خاضت حروبًا ضد الدولة في كثير من الأحيان.
لكنه من غير قصد، ربما يعكس لنا أن التشويه الذي شنّته الدولتان الأموية والعباسية ضد خصومهما من هذه الفرق، جنبًا إلى جنب مع عمليات تطهير عسكري واسعة النطاق ضدهم، تمكنت ــ وإن على مدار عشرات السنوات ــ من النيل من هذه المذاهب وتلويث سمعتها تمامًا.
أنت اليوم لا تقابل شخصًا يصف نفسه بأنه معتزلي (فيما عدا د.حسن حنفي!)، وبالطبع لا يُعرف أحد نفسه بأنه (جهمي).. وحتى الخوارج الذين يمثلون غالبية سكان سلطنة عمان، لا أحد يسمع بهم ولا بآرائهم ولا يشكلون هم بكل عقائدهم شيئًا في المشهد الإسلامي العام.. بل لا يعرف الكثيرون أن سلطنة عمان «إباضية» المذهب.. فضلًا عن عدم معرفة أحد بعقائد المذهب الإباضي أصلًا.
تمكن الشيعة من البقاء في لبنان وسوريا والعراق وإيران، تحت تصنيفات وطوائف مختلفة، لأسباب تاريخية يتداخل فيها السياسي أكثر من العقائدي، لكنهم لعموم الجمهور السُّني من المسلمين، ما زالوا طائفة مجهولة الأفكار أو غير مفهومة المعتقد.. إلى حدود عشر سنوات مضت فحسب!
وبمد الخط على استقامته، فإن مطاردة عدة أنظمة عربية لجماعة الإخوان، مع تشويههم ولفظهم مجتمعيًا، سيجدي بصورة ناجعة على المدى القريب.. بل وأقرب مما يتخيل الذين يعجبهم إيراد تجربة قمع الإسلاميين في التسعينيات شاهدًا على فشل الدولة في دحض الأفكار أو في تفكيك أوصال الإسلاميين.
فالحروب ضد الأفكار، تستغرق عشرات السنوات، لا مجرد عقد أو عقدين أو جولة أو جولتين.. فضلًا عن أن هذه المعركة الإقليمية التي تتبناها عدة أنظمة عربية ضد الإخوان، تسير بوتيرة غير مسبوقة وبإمكانات مهولة، إعلاميًا وأمنيًا، مدعومة بمساندة اجتماعية وغضب شعبي جارف.
والإخوان من جانبهم، وبقدرتهم العصامية على هدم جماعتهم وتشويه أنفسهم، ساهموا بصورة أسطورية على مدار عام كامل من تبديد رصيدهم في النفوس وتحويله هشيمًا تذروه الرياح.. بل راح الذين كانوا ينتقدون عبد الناصر وقمع سنواته ضد الإخوان، يلتمسون له العذر ويرون في سياسته الحنكة والحكمة واستقراء الغيب.. «هو اللي فهمهم بدري بدري الله يرحمه» هكذا أسمع الجملة عشرات المرات.
الخطير والذي يضع الإخوان في العراء تمامًا.. والذي يجعل من إمكانية تحقيق «المرجئة» أو «الجهمية» أو «القائلين بالرجعة» نتائج أفضل من الإخوان في أي انتخابات قادمة في مصر، هو أن الإخوان جماعة بلا مذهب أصلًا!
الإخوان تنظيم سُني، لكنه لا يعلن اعتناق أي رؤية فقهية أو مذهب بعينه، مالكيًا أو حنفيًا أو شافعيًا أو حنبليًا، ويفضل اللعب في مساحة مرنة مطاطة تتيح له أن يختار مواءماته وفقًا لاحتياجات الظرف ووفقًا لارتجالات القدر.
يقول الأستاذ حسن البنا في تعريفه للجماعة (إن الإخوان المسلمين دعوة سلفية، وطريقة سُنّية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية).. وهو تعريف ربما يصلح لأن تقول على نفسك أي شيء وأن تتخذ أي موقف.. هو فقط لم يذكر موقف الإخوان من انقراض البطاريق.
ثم هي جماعة تتقلب سياسيًا وفقًا لما تمليه موازين القوى، فلا هي تنزع إلى قيم العدالة الاجتماعية فتتجه يسارًا، ولا هي التي تقدر على المصارحة بأنها تفضل النموذج اليميني الليبرالي.. وهو ما عكسه تناقض خطاب الإخوان من الستينيات إلى السبعينيات.
وفي هذا دراسة مدهشة للراحل حسام تمام -رحمه الله- تعرض فيها لتبديل نماذج الصحابة في مناهج الإخوان الداخلية، ففي الستينيات كانوا يدرسون سيرة أبي ذر الغفاري وأبي هريرة –رضي الله عنهما- كنموذج للمسلم الفقير الصابر المجاهد، في حين لجأوا مع الانفتاح في عهد السادات لتدريس سيرة عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنهما- كنموذج للصحابة الأثرياء الذين سخّروا أموالهم لصالح الإسلام وأعمال الخير.
ثم يتبدل موقفهم من القوى العالمية وفقًا للحظة الآنية.. ينددون أحيانًا بالدور الأمريكي في المنطقة ويرفضون غزو العراق، لكنهم يشاركون في مجلس بول بريمر الحاكم العسكري للاحتلال!
هي جماعة تتخذ الموقف وعكسه في كل شيء ولا تثبت على قناعة بعينها.. تراوغ وتكذب كما تتنفس، الأمر الذي يجعل من الحرب ضدها حربًا قيمية لا حربًا مذهبية أو سياسية.
لقد ثبت الخوارج والشيعة ضد الأمويين ثم العباسيين، واستبسل عبد الله بن الزبير وجماعته ضد عبد الملك بن مروان، لأن هناك بُعدًا عقائديًا وفكريًا كان يتم بموجبه تعبئة الحشود والأنصار.. كانت هناك فكرة تتقد جذوتها، سواء تحت راية يقين ديني أو غيرة فكرية.
في حين أن الإخوان الذين نشأت جماعتهم لأجل استعادة الخلافة الإسلامية وإقامتها في أنحاء الأرض.. تضاءلت معركتهم وتقزّمت إلى «الشرعية» و«الانقلاب» وكل هذه السخافات التي يدهسها الأمر الواقع يومًا بعد يوم.
ربما لا يتخيل الإخوان بعد سنتين من الآن، كم ستبدو مظاهرات يوم الجمعة ضد الانقلاب أشبه بفقرة الحاوي حين يمر في الحواري والمناطق الشعبية أو بتطبيل المسحراتي في فجر رمضان.. كلها مفردات رفاهية تنتمي لظواهر فلكلورية على وشك الانقراض.. ولم نعد نتذكر على الأحرى متى نشأت ولا لِمَ!
نقطة قوة الإخوان التاريخية كانت اللاموقف الذي يتيح لهم التلون والتنصل.. لكنها اليوم كعب أخيل هذه الجماعة.
ربما سيتغير شيء ما في جوهر تنظيم الجماعة وفكرتها، فالأفكار تتخذ صيغًا جديدة بفعل التاريخ، لكنهم سيتحولون لشيء بعيد تمام البعد عما هم عليه.. في حالة بقوا أصلًا بعد عقدين على الأكثر.
هذا ليس احتفاءً بالقمع والمطاردة بمقدار ما هو مقارنة الظواهر واستنطاق التاريخ، على نحو ما يتراءى لي.
هناك جماعات كثيرة للمدافعين عن حقوق الحمير.. والمهتمين بجمع الطوابع والعملات.. والمغرمين بمراقبة سلوك سلحفاة الترسة.. وعاشقي كوكب أورانوس.. ومثلهم سيصبح أبناء الجماعة يومًا ما.