.. بدأت سطور أمس بإشارة مقتضبة إلى حديث دار بينى وبين شاب ثورى رائع يفيض بالإخلاص والحماس ولا ينقصه الذكاء أيضًا، ومع ذلك أحزننى أن بدا لى مقيدًا محبوسًا فى سجن نقص أو «فقر معرفة» مدقع، يكابد بين جدرانه حرمان شديد من نور الثقافة عمومًا وخصوصًا الثقافة السياسية، فضلًا عن حالة «عذرية عقلية» وبراءة تامة من أدنى درجات الوعى بتاريخ هذا الوطن وطبيعة تكوينه الاجتماعى المتفردة والمسار الخاص لدولته الحديثة الذى جعلها منجزًا خطيرًا للجماعة الوطنية.
هذا الأمر (أو العطب) الأخير بالذات ظهر أثره بوضوح عندما انزلق حديثى مع هذا الشاب إلى موضوع العلاقة مع الجيش والشرطة المصريين على اختلافهما، فقد وجدته يقاوم بضراوة محاولاتى إقناعه بأنهما ركائز وأعمدة فائقة الأهمية فى بنيان أى دولة فى الدنيا، وأن المعقول والمقبول هو تهذيب دور الأول (الجيش) فى الحياة السياسية وإبقاؤه عزيزًا قويًّا يؤدّى دوره الحيوى تحت مظلة سلطة حكم ديمقراطى رشيد ووطنى، وإعادة تأهيل وتطوير الشرطة بحيث تعود حارسًا للقانون ودرعًا يحمى أمن الناس ويحفظ كرامتهم.. غير أن الشاب ركبه العناد، وظل يجادل ويسفسط حتى بدا فى لحظة على وشك الاعتراف بأنه يتمنّى إلغاء هاتين المؤسستين تمامًا من الوجود!!
لكنه بالفعل اعترف قرب نهاية حديثنا بتهمة اتهم بها نفسه زورًا وبخفة وبراءة مدهشين، إذ أسرّ إلى العبد لله بأنه من أتباع الـanarchism، أى «الفوضوية» بالعربى الفصيح (!!) وعندها اكتفيت بإطلاق ضحكة مجلجلة ربما أربكته قليلًا، لكنى أسرفت بعدها فى التودّد له وملاطفته وامتنعت عامدًا عن سؤاله عما يعرفه عن هذه النظرية التى اتهم نفسه بها (كما بضع عشرات غيره) فقد كنت لحظتها قررت أن أكتب هذه السطور وأهديها إليه.
هل استوقفك استخدامى كلمتى «تهمة» و«اتهام» فى وصف نظرية الفوضوية التى نسب صاحبنا الشاب نفسه إلى المؤمنين بها؟ فى الواقع هى كذلك لسببين، أولهما أن هذا الشاب الرائع لا يكاد يعرف منها إلا اسمها وبضع أشياء ومعلومات مشوّشة ومبهمة تلقاها بالسمع لا بالقراءة والاطلاع، وثانيًا لأن هذه النظرية العتيقة صارت منذ نهاية القرن التاسع عشر مجرد «أثر» تاريخى أقرب إلى نوع من «الفلكلور الفكرى» الذى ليس له من فائدة إلا مجرد الإشارة إلى حال المخاض العنيف التى مر بها الفكر الاجتماعى الأوروبى الحديث قبل أن يستقر ويتبلور فى المذاهب والنظريات الاشتراكية الكبرى المعروفة الآن، كما أن الفوضوية كحركة تنظيمية وكفاحية، على ما يقول أستاذنا الراحل كامل زهيرى «دنّست مبكرًا سمعتها السياسية والفكرية بمغامرات (عنف) هزّت أوروبا وأخافت الجماهير منها»، وربما حوّلت اسمها نفسه فى أذهان الناس إلى شىء أشبه بالشتيمة!!
ولكن ما الفوضوية بالضبط؟ إنها باختصار مخل، نظرية تدعو للحرية المطلقة التى لا سبيل لبلوغها إلا من خلال تقويض الدولة وتحرير الناس من أى سلطة مهما كان نوعها، ورغم أن هذه الفكرة لها أصول قديمة جدًّا يعود بعضها إلى مطلع شباب الفلسفة، كما يشير أفلاطون فى كتابه الأشهر «الجمهورية»، فإن هذه النظرية ظلّت نتفًا وهواجس فكرية ولم تأخذ صورتها كمذهب سياسى يتمتع بقدر معقول من التماسك، إلا فى مطلع القرن التاسع عشر، بيد أنها توزّعت فورًا على اتجاهات ثلاثة متباينة ومختلفة جدًّا ولا يجمع بينها إلا تلك الفكرة المركزية المتمثلة فى رفض الدولة وتحرير البشر من قيودها.
و.. ضاق المجال فأكمل غدًا..
ينشر للمرة الثانية