أود أن أشكر السيد رئيس الوزراء على رده على مقالى السابق، كما أشكر دعوته لى أن أتعدى حالة الاكتئاب الذى سببه عجز الحكومات المتعاقبة عن مواجهة الكارثة الاقتصادية (أتحدث عن ذلك منذ أكثر من عامين)، وأدعو سيادته إلى أن يقرأ هذه القصة.. فهل أتفاءل؟
كنت فى مكتبى عام 2010 عندما دخلت علىّ السيدة/ هناء حلمى، مديرة مؤسسة اجتماعية، أتشرف بالانتماء إليها، وهى تحمل معها خطاباً مكتوباً من أهالى عزبة «يعقوب»، يشكروننا فيه على إعادة بناء قريتهم بالكامل، وعزبة «يعقوب»، هى قرية ببنى سويف يسكنها حوالى خمسة آلاف مواطن. وقبل أن أستطرد أود أن أشير إلى أن هذا شرف لا أستحقه، لأن المؤسسة هى التى تولت تمويل إعادة البناء، ولكننى أتشرف بأننى كنت صاحب الفكرة، وبأننى اتخذت القرار. لم تكن الكلمات الرقيقة هى أهم ما جاء بالخطاب، ولكن أنَّ سكان عزبة «يعقوب» لم يوقعوا على الخطاب فقط بالقلم أو بالبصمة ولكن بالدم أيضاً. نعم بالدم.
أروى هذه القصة لأننى أستعيد هذه التجربة لطرح فكرة إعادة بناء جميع عشوائيات مصر بكود بناء موحد، مع تسليم قاطنى هذه المنازل عقوداً رسمية تثبت ملكيتهم، وأتطرق لكيفية تمويل هذا المشروع القومى.
إن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، بل السياسية، لمشروع بهذا الحجم تساعد مصر على الانتقال لما بعد الحالة الثورية، التى مازلنا نعيشها، وأعود للبداية:
فى عام 2007، زرت عزبة «يعقوب»، حيث طُلب من المؤسسة الاجتماعية تمويل مشروع محطة معالجة مياه الصرف الصحى، وأمضيت يوماً كاملاً رأيت فيه فقراً مدقعاً وبؤساً وهواناً. منظر عدمى وعبثى، وكأنها قرية من خارج التاريخ والجغرافيا، خارج مصر التى تعودت عليها. نعم كنت أنتظر أن أرى فقراً ولكن ليس منظراً غير آدمى لا يصلح أن يُرى حتى فى الصومال، ناهيك عن مصر. المنازل من الطين بلا أسقف.. لا يوجد كهرباء أو صرف صحى أو مياه نقية.. بطالة.. بؤس.. حزن عام.. قرية هجرها الكثيرون بحثاً عن فرصة للعمل فى بنى سويف أو فى القاهرة، فلم يتبق إلا كبار السن والأطفال. أتذكر أننى دخلت منزل «الست فتحية» وقد فقدت بصرها نتيجة المرض، وكانت تطهو شيئاً ما على النار، فسألت عما تطبخه، فقال لى المرافق إنها تسلق عظمة منذ أسبوع. وسألت «الحاج محمود» عما يأمل فى تحقيقه فنظر إلىّ كأننى شخص يأتى من عالم آخر، وقال إنه يأمل أن «يموت» كى يتخلص من عذابه اليومى. عدت إلى القاهرة وقررت أن تقوم المؤسسة الاجتماعية بهدم وإعادة بناء عزبة «يعقوب» بالكامل، فالموضوع بالنسبة لى لم يكن محطة معالجة مياه الصرف الصحى هنا، أو وصلة كهرباء هناك، لأننا كنا فى حاجة إلى إعادة النظر بالكامل. وبالفعل، وفى خلال ثلاث سنوات، وبتكلفة إجمالية وصلت إلى 27 مليون جنيه، تمت إعادة بناء عزبة «يعقوب» بالكامل، بما فى ذلك تحويل قطعة أرض فضاء إلى حديقة عامة صغيرة، وتوصيل جميع المنازل الجديدة بشبكة صرف صحى، وتمت إقامة مخبز آلى ومستوصف طبى وحضانة نموذجية وقاعة تدريب ومحطة معالجة مياه الصرف الصحى وتم تجديد المسجد. لم يقتصر المشروع على البنية التحتية وإعادة بناء القرية، ولكن أُضيف برنامج للتنمية البشرية بدأ بتوعية بالصحة والنظافة، ثم توعية بيطرية وانتهاءً بتنظيم دورات لتنمية المهارات الفنية المختلفة، إضافة إلى زيارات علاجية، وترتب على ذلك أن نساء القرية لم يعد مطلوباً منهن جلب المياه يومياً من الحنفية العمومية. وعليه، فقد أصبح لديهن وقت متوفر استخدمنه حينذاك فى بيع المرطبات للعاملين فى مجال البناء، ثم قمنا بإحضار ثلاجة لمد القرية باللحم المجمد. قصص الكفاح والنجاح كثيرة فى هذا الشأن وتثبت صلابة وقوة وحيوية الشعب المصرى، وعلى رأسه سيداته، كما أن «الحاج محمود»، الذى كان يرغب فى الموت، قد أصبح لديه مشروع صغير، هو تربية عدد من رؤوس الماعز.. ثم توفى منذ حوالى عام كمواطن وليس كرقم فى تعداد!
لقد تكلف المشروع حوالى 5 آلاف جنيه لكل مواطن، وإذا قلنا إن عدد قاطنى العشوائيات فى مصر يصل إلى حوالى 20 مليون مواطن، فإن التكلفة الإجمالية لإعادة بنائها وتمليك قاطنيها عقوداً خضراء تقدر بحوالى 100 مليار جنيه على عشر سنوات، وعليه فإن تكلفة السنة الواحدة على الدولة هى حوالى 10 مليارات جنيه يتم تمويلها عن طريق ضريبة الثروة على أغنياء مصر (لا تنطبق على 99.9% من سكان مصر)، ورفع الدعم عن شركات الأغنياء (المسمى خطأً دعم الشركات كثيفة الاستخدام للطاقة). وأضيف أن هذه الأموال كلها ستنعش الاقتصاد وشركات المقاولات ومواد البناء، وتتيح تشغيل العمالة بشكل كبير. هذه هى العدالة الاجتماعية، كما أفهمها، وهى عندما تتعامل الدولة مع المواطن كبشر وليس كرقم فى تعداد، وأقول للدكتور حازم: رجاءً، «خلّى» مصر تتفاءل.