يمكن تلخيص المأساة فى إجابة سائق التاكسى.
سألته عن عدد السائحين الموجودين فى الأقصر فى هذه الأيام بالتقريب.
فقال سائق التاكسى: فيه خمسة.. اتنين فى فندق إيتاب وتلاتة فى الوينتر بالس.
كانت الإجابة صادمة بالفعل فأهل المدينة يعرفون السائحين الموجودين بها بالرقم وبالاسم من فرط ندرتهم. إجابة سائق التاكسى وكأنها منحتنى عين ثالثة جعلتنى أدقق فى كل ما أمر به.
كنت فى الأقصر على هامش ندوة مع شبابها، ولاستغلال النهار من أوله قررت أن أزور مبكرا معابد المدينة ومتاحفها، قبل ثلاث سنوات وفى مثل هذا الموعد كان الواحد يخترق شوارع الأقصر -أو بالأحرى شارعها الرئيسى- بصعوبة من فرط الزحام الذى كان قوامه باصات السائحين وطوابير الحنطور.
أما الحنطور فلم أرَ واحدًا، يقول سائق التاكسى إن معظم أصحاب الحناطير فرطوا فى الأحصنة لصعوبة إطعامها مع وقف الحال الذى نعيشه جميعا، تغذية حصان واحد يوميا تحتاج إلى ما لا يقل عن خمسين جنيها، فلو توافرت الخمسين جنيها لأصبحت عائلة صاحب الحنطور أولى بها من الحصان.
قال السائق مازحا: العزبى كان بيقول عن السياح «بتبقى مش عايزة تروح».. أهى دلوقتى مش عايزة تيجى أصلا.
أما باصات السياح فلم يحدث أن رأيت واحدًا خلال 48 ساعة، كان الواحد قبل أعوام ينتظر فى (ويتنج ليست طويلة) حتى يستطيع أن يدخل بسيارته أو أوتوبيسه إلى ساحة الانتظار فى معبد الكرنك تفاديا للسير مسافات طويلة فى الشمس، اليوم اخترق ساحة انتظار المعبد الفارغة تماما (بالمعنى الحرفى لكلمة تماما)، موات تام لدرجة أن أمن المعبد لم يهتم بسؤالى إن كنت قد اشتريت تذكرة دخول، فلا قيمة لتذكرة دخول المصريين ذات الجنيهات القليلة (خليها له أحسن)، أما المعبد نفسه فلا أحد به سوى بعض الخفراء.
تطوع مفتش آثار شاب رائع أن يصطحبنى فى الرحلة، كنا نتجول داخل المعبد كأصحابه، كان شرحه ممتعا، كان يحدثنى عن سر جملة (على راسه ريشة) عندما أشار إلى تاج الإلهة ماعت الذى تزينه ريشة نعام، وفجأة توقف دون مقدمات قائلا: «عارف بعد حادث الأقصر الإرهابى من كام سنة ماقعدناش فاضيين غير 3 شهور، بس بعدها السياحة رجعت أحسن من الأول.. دلوقتى 3 سنين عدت علينا مش عارفين آخرتها إيه»، ابتسم قائلا: «كنت أشرح للسياح الإسبان.. بس دلوقتى مش فاكر ولا كلمة إسبانى».
سألته إن كانت لتجربة الإخوان والتيارات الدينية يد فى هذا الموضوع، فأنكر على الأقل فى ما يتعلق بحدود المدينة «كل إخوانى أو سلفى هنا ابن عيلة كبيرة شغالة فى السياحة صعب أنه يقطع عيش أهله وناسه»، سألت عن الحل؟، قال: «دعاية مكثفة وتذاكر طيران مخفضة وعروض جاذبة وتحسين سمعة الأمن والأمان».
فى طريق العودة كانت المراكب مستكينة فى المراسى بلا حراك، ومحلات التحف والألباستر مغلقة بالضبة والمفتاح، والفنادق مهجورة، وأبواب محلات العطور والبرديات تعلوها طبقات من التراب، حتى الفندق تنازل عن العرف السائد فى كل فنادق العالم وهو أن يكون هناك بوفيه مفتوح للعشاء أو الغذاء وقرر أن يطبخ للنزيل ما يطلبه فقط، قالها مدير الاستقبال خجلا: «لغينا البوفيه.. شوف حضرتك عايز إيه ونجيبهولك» طلبت فأحضره هو شخصيا إلى غرفتى.
فى انتظار طائرة العودة تذكرت المرشد عندما قلت له مواسيًّا: «كله هيرجع تمام إن شاء الله»، فقال بثقة: «طبعا هترجع نحن فى أول بقعة فى العالم آمنت بالحياة بعد الموت».