صباح يوم الأربعاء الماضى، طلب منى أحد الزملاء الصحفيين، هاتفيا، أن أعلق على خبر إغلاق وتشميع مقر جريدة «الحرية والعدالة»، لسان حال الحزب الذى يحمل هذا الاسم ويعرّف نفسه بأنه الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين. ولما لم أكن قد قرأت الخبر، فقد طلبت منه تفاصيل عنه، فهمت منها أن مصدره هو بيان أصدره الصحفيون العاملون بالجريدة وبثه الموقع الإلكترونى للجماعة، وأن نقيب الصحفيين أصدر بيانا ذكر فيه أن النقابة تلقت من العاملين فى الصحيفة أنباء عن إغلاق مقر الجريدة، وتشميعه والاستيلاء على بعض محتوياته، وأنها أجرت اتصالات بنيابة جنوب القاهرة ومكتب النائب العام، حيث أكدت هذه الجهات عدم صدور أى قرار بشأن الجريدة، خلال الأيام السابقة. وبحكم المهنة أدركت أن الخبر ينقصه شىء ما، يدعو للشك فى صحته، فضلاً عن أن الجهة المنوط بها اتخاذ أمر بمثل هذا الإجراء، وهى النيابة العامة، قد نفت صدور مثل هذا الأمر عنها، كما نفت الجهة المنوط بها تنفيذه فيما لو صدر، وهى وزارة الداخلية، قيامها به، فقد كان العدد الصادر من الجريدة صباح يوم الأربعاء نفسه بين يدى، وكان مطبوعاً - كالعادة - على مطابع مؤسسة «الأهرام»، فلماذا لم يشمله قرار الإغلاق فتمنع السلطات المعنية مطابع «الأهرام» من طبعه، وتوزيعه، أو تتولى مصادرة ما طبع منه؟.. وما جدوى إغلاق المقر أو تشميعه إذا كانت الجريدة تصدر بالفعل.. وتصل إلى قرائها يوميا؟!
من الناحية القانونية المحضة، فليس من حق أى جهة سواء كانت إدارية أو قضائية إغلاق أى صحيفة، وليس من حقها أن تعطلها عن الصدور لفترة محددة، وكل ما تملكه النيابة العامة، طبقاً للقانون القائم، هو أن تصادر عدداً منها، إذا تضمن مخالفة لإحدى مواد الكتاب الرابع عشر من الباب الثالث من قانون العقوبات الخاص بالجرائم التى ترتكب بواسطة الصحافة، ويتوجب عليها فى هذه الحالة أن تعرض الأمر على المحكمة بعد ساعتين لتؤيد قرار المصادرة، أو تقضى بالإفراج عن العدد المصادر.. وفضلاً عن أن العدد كان قد صدر بالفعل.. فلم يكن فى بيان صحفيى الحرية والعدالة ما يشير إلى شىء من ذلك.
وخلال دقائق، كان الخبر قد تصدر كما قالت جريدة «الحرية والعدالة» ذات نفسها فى العدد الذى صدر منها أمس الأول الخميس، نشرات الأخبار فى قناة C.N.N الأمريكية، ونقلت الجريدة عن القناة قولها إن اقتحام مقر الصحيفة جاء بعد ساعات مما سمته «صدور قرار بحل الجماعة»!.
وما لبثت الحقائق أن اتضحت كاملة، فإذا بها تكشف عن أن مقر الجريدة مغلق منذ 28 يونيو الماضى، أى منذ بدأ اعتصام رابعة العدوية قبل يومين من انطلاق مظاهرات 30 يونيو، تحسباً لاحتمال أن تتعرض لهجوم من المتظاهرين، خاصة أنها كانت قد تعرضت لمثل هذا الهجوم من قبل، كما تعرضت لمثله مقار الحزب فى المحافظات.
ومنذ ذلك التاريخ انتقلت جريدة «الحرية والعدالة» إلى مكان مجهول، يجرى تحريرها وتجهيزها فيه، وتخرج منه أفلام الصفحات إلى مطابع الأهرام لتطبع عليها من دون أن يراقبها أحد، قبل الطبع، أو يصادرها بعده، وبعد شهرين ظلت خلالهما الصحيفة تصدر يومياً بانتظام، أصدرت النيابة العامة فى 29 أغسطس الماضى، قراراً بتفتيش المقر، باعتباره أحد المقار التابعة لمكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين وليس للجريدة، فى سياق التحقيقات التى تجريها فى إحدى القضايا، وأمرت بتشميعه لحين انتهاء هذه التحقيقات.
وكما أنه لا صلة لهذا الاقتحام المزعوم بإغلاق جريدة الحرية والعدالة، التى لاتزال تواصل الصدور، وتطبع على نفقة إحدى الدور الصحفية المملوكة للدولة مجاناً، من دون أن تتخذ «حكومة الانقلاب» بشأنها أى إجراء، فلا صلة - كذلك - بينه وبين ما ذكرت قناة «C.N.N» أنه صدور «قرار» بحل جماعة الإخوان المسلمين، مدللة على ذلك بأن «الاقتحام» وقع بعد ساعات من إعلان «القرار».. ليس فقط لأن «المزعوم» لم يحدث أصلاً فى اليوم الذى صدر فيه «القرار»، ولكن - كذلك - لأن الذى صدر لم يكن قراراً بل كان حكماً قضائياً، من محكمة الأمور المستعجلة، قال مجلس الوزراء إنه سينفذه بعد انتهاء كل مراحل التقاضى، وحين يصبح حكماً باتاً، وحتى لو أصبح كذلك، فإنه لن ينطبق على صحيفة «الحرية والعدالة» لأنها - نظرياً - تصدر عن الحزب لا عن الجماعة.
ما يدهشنى هو هذه الروح الديمقراطية المفاجئة التى تلبست محررى جريدة «الحرية والعدالة» وقادة الحزب الذى تنطق باسمه، والجماعة التى يعملون ذراعاً سياسية وصحفية لها، والمتباكين على الديمقراطية فى الجزيرة مباشر مصر، ممن يتمتعون بالرعاية القطرية الكريمة، وأن أحداً منهم لم يضبط فى يوم من الأيام متلبساً بالدفاع عن الديمقراطية، التى يعتبرونها طاغوتاً يعتدى على حاكمية الله، أو بالتحمس لحرية الصحافة، وعلى امتداد عامين أفردت الصحيفة صفحاتها لكتاب لم يتوقفوا يوماً عن التحريض ضد حرية الصحافة والمطالبة بتطهيرها ممن يسمونهم اليساريين والعلمانيين والديمقراطيين المعادين لهوية الأمة، وإلى هؤلاء جميعاً يعود الفضل فى تضمين دستور 2012 المادة التى تجيز إغلاق الصحف وتعطيلها بحكم قضائى، بعد أن اختفت من الدساتير المصرية منذ دستور 1923، ومن القانون المصرى منذ عام 2006، وهو ما يؤكد أن حرية الصحافة التى يتباكون عليها اليوم هى حريتهم فى الكذب والافتراء، وفى التحريض على الحرية!