من الكتب التى وقعتُ فى غرامها كتاب للمؤلف إريك دوريتشميد عنوانه «دور الصدفة والغباء فى تغيير مجرى التاريخ». وأطلق على ما تفعله الصدفة وما يقود إليه الغباء مصطلحًا مهمًّا للغاية وهو «العامل الحاسم». نعم فى لحظات كثيرة من التاريخ والوقائع السياسية وفى المعارك والثورات قد تلعب «شوية مطرة» دورًا فى تغيير مجرى الحرب، أو أمور مثل إصابة قائد بإسهال أو ضابط اتزحلق قد تجعل الهزيمة أو النصر شيئا مؤكدا، وربما تلعب عواطف أو خيانة زوجة دورا هائلا فى الحروب والمعارك وصراعات الحكم، وكل هذا ينطبق على تاريخنا وواقعنا المصرى. من صدفة أن الرجل المالطى اتخانق مع العربجى فى إسكندرية على الأجرة فاندلعت فتنة فاحتلّ الإنجليز مصر بسبب هذه الواقعة الصدفة، كما كان صدفة أو غباء أن أحمد عرابى وثق بـ«علِى خنفس»، أو أن بعض الضباط الأحرار خرجوا مبكرًا عن ساعة الصفر ليلة 23 يوليو، أو أن طائرة عبد الحكيم عامر كانت فى الجو لحظة ضرب مطارات مصر فى يونيو 67، أو أن القنبلة التى رماها قَتَلَة السادات على المنصة لم تنفجر... أو عشرات الوقائع التى تصل بنا إلى ما يريد أن يقوله لنا مؤلف كتاب «دور الصدفة فى تغيير مجرى التاريخ»، وقلت لك إن اختيارات الرؤساء المصريين لنوابهم ومساعديهم ووزرائهم وللرجال الذين يحكمون البلد باسم الرئىس وبناءً على تعليماته ربما أكثر الأمور غموضا فى حياتنا ولا نكاد نعرف لها سببا، لكن من المستحيل أن تصدق أبدا خيالات من نوع أن صدفة عبارة عن حلة محشى غيَّرت تاريخ مصر، فأحد قيادات الضباط الأحرار وهو السيد عبد المحسن أبو النور -الذى كان أول قائد للحرس الجمهورى لأول رئىس جمهورية مصرى اللواء محمد نجيب- يحكى فى كتابه «الحقيقة عن ثورة يوليو» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 2001، أن عبد الناصر أصبح فى حالة نفسية سيئة جدا وأنه انعزل عن الجميع بعد انتحار المشير عبد الحكيم عامر. ويقول أبو النور إن السادات جاءه فى هذه الفترة منزعجًا من الحالة التى عليها عبد الناصر طالبًا منه المشورة، فلم يكن من أبو النور إلا أن نصح السادات بأن يذهب إلى عبد الناصر وأن «يستحضر بعض القفشات والنِّكات المسلية» من أجل إخراجه من الحالة السيئة التى هو فيها! ويقول أبو النور إن السادات جاءه فى اليوم التالى فَرِحًا وممتنًّا له لأن عبد الناصر تكلم معه كثيرا بعد أن ألقى عليه بعض النكات والقفشات، فطلب منه أبو النور أن يستمر فى دوره، بل طلب منه أن يأخذ لعبد الناصر «شريط فيديو مسليًا!» ويؤكد أبو النور أن العلاقة بين الرجلين استمرت قوية لفترة إلى أن جاء اليوم الذى كان فيه عبد الناصر معزوما فى بيت السادات لتناول العشاء الذى احتوى على كباب ومحشى ورق عنب وسلطات، وأنه «أى أبو النور» فوجئ بعد هذه العشوة بتعيين عبد الناصر لأنور السادات نائبًا لرئىس الجمهورية. ومع احترامى البالغ للسيد أبو النور فأنا لا أصدق أن حلة المحشى فعلت هذا قطعًا، وأعتبر القصة كلها نموذجًا على الهرتلة التى قد تصيبنا جميعا بحثًا عن أسباب لوقائع لا نفهمها فى تاريخنا وسياستنا. ومهما كان إيمانى بعظمة المحشى خصوصا ورق العنب، فإننى لا أتصور أنه يمكن لرجل دولة أن يدفعه عدم فهم واقعة إلى تفكير «محشى» بهذه الطريقة، وأن ورق التاريخ يكتبه ورق العنب!
إبراهيم عيسى يكتب: محشى تاريخى!
مقالات -
إبراهيم عيسى