لا يعرف الكثيرون أننا غنينا أيضا للواء محمد نجيب أول رئيس مصرى، حتى مؤرخو الموسيقى لم يستوقفهم هذا المونولوج لإسماعيل يس الذى ردده فى أعقاب ثورة 23 يوليو مباشرة «20 مليون وزيادة».. المقصود بالرقم عدد سكان مصر عام 52، غنى سُمعة: «الجيش ونجيب عملوا ترتيب» فلم تكن صفة ثورة التى أطلقها طه حسين بعد عدة أسابيع من قيامها قد تم تداولها، كانت مصر حائرة بين تعبير (انقلاب وترتيب وحركة)، أضيف لها بعد ذلك مباركة، كما غنت ليلى مراد من تأليف وتلحين مدحت عاصم «بالاتحاد والنظام والعمل» أول شعار رفعه نجيب، بعد عامين من الثورة، غادرنا نجيب لنغنى لعبد الناصر ويتواصل الغناء للسادات ومبارك حتى الفريق السيسى غنى له مصطفى كامل والمجموعة «تسلم الأيادى»، فى أكثر من مقطع هناك إشارة مباشرة إلى الفريق.
عندما سألوا هانى شاكر مؤخرا هل تغنى باسم رئيس مصر القادم؟ أجابهم بالطبع أغنى.. هانى اشترك وهو طفل مع الكورال خلف عبد الحليم فى الغناء لعبد الناصر وبعدها غنى للسادات ثم مبارك، فلا يجد بأسًا من مواصلة الغناء للرئيس القادم.
نحتفل اليوم بالذكرى الـ43 على رحيل عبد الناصر، وبالتأكيد الإذاعات لن تتوقف اليوم عن تقديم الأغانى التى رددت اسمه، وأراها فرصة لكى نستعيد زمن عبد الناصر بعيون الأغانى.
لا أزال مثل كثيرين أميل إلى أغانى ناصر، ولا أحب أغانى السادات باستثناء «عاش اللى قال»، وأسخر من أغانى مبارك، أعشق مصر وانتصاراتها وفرحتها وأغانيها الوطنية بنفس القدر الذى أتمايل فيه طربا مع أغانيها العاطفية.. لا أتصور أننى حالة خاصة.. أعرف بعض أصدقائى مصابون أيضا بنفس فيروس الأغانى مع اختلاف الدرجة.. وفى ذكرى الزعيم تتلون إذاعة الأغانى بالطابع الوطنى الحماسى، ورغم أننى لا أوافق ولا ترتاح مشاعرى ولا أذنى ولا عقلى أن تعيش محطة 24 ساعة على نوع واحد فقط من الأغانى -عاطفية كانت أم وطنية- فإن الجانب الإيجابى فى هذا الخطأ الإعلامى أننى أعقد لا شعوريا فى كل مرة مقارنة بين أغانينا الوطنية التى رددناها فى الخمسينيات وعاشت ولا تزال لها مساحة فى قلبى، وأتصور أيضا قلوب العديد من المصريين، وأغانى الثمانينيات التى ماتت فور إذاعتها!
كل الأغانى تحمل مبالغة فى المشاعر عاطفية كانت أم وطنية والناس تتسامح مع تطرف العواطف.. مثلا تابع أغنية قيلت فى عام 55 «إحنا الشعب إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب يا فاتح باب الحرية يا ريس يا كبير القلب» كتبها صلاح جاهين، ولحنها كمال الطويل، وغناها عبد الحليم، بعد ذلك بثلاثين عاما يكتب عبد السلام أمين، ويلحن عمار الشريعى لمحمد العزبى «اخترناه اختراناه وإحنا معاه لما شاء الله». لاحظ التشابه فى كلمة الاختيار.. العزبى كان أول مَن بشر ببقاء الرئيس مدى الحياة، ولكن القدر كان له رأى آخر، فى الماضى كانت أغلب أغانينا الوطنية تبحث عن اسم الزعيم، الشاعر يطارد القافية والوزن ليضع اسم «ناصر» أو «جمال» فى شطرة غنائية.
لماذا عاشت الأغانى القديمة، لا فقط العاطفية، بل الوطنية أيضا بينما ماتت أغانى هذه الأيام؟! أغلب الأغانى الوطنية التى عاشت فى الماضى تم تلحينها فى لحظات مثلا على سلم الإذاعة لحن محمد الموجى «يا أغلى اسم فى الوجود يا مصر»، وفى لحظات كان كمال الطويل يلحن فى منزله على البيانو «والله زمان يا سلاحى».. صلاح جاهين يكتب الكلمة والطويل يرددها معه فى نفس اللحظة، ويذهب إلى فيلا أم كلثوم سيرا على الأقدام لإجراء البروفات. السرعة فى التنفيذ لم تقف عائقا أمام نجاح أغانى الماضى، هناك شىء آخر يكمن ربما فى سحر الزعيم وفى طبيعة الجمهور.. لست من أنصار الحنين إلى الماضى، ولا أرى مثل الآخرين أن فيه فقط يكمن الجمال وأن الحاضر هو القبح.. الصحيح أن الجمال لا يعترف بزمن ولا جيل، ولكن لم تعد ذائقة الناس تقبل أن نغنى لفرد، رغم يقينى أن القسط الكبير من أهل الطرب والغناء بدؤوا من الآن فى الإعداد للغناء للرئيس القادم، سخنوا الطبلة وشخلعوا الرق ولمعوا الصاجات وحزموا وسطهم ورقصنى يا جدع!!