معروفة هى الظروف التى تعمل فى ظلها حكومة د. حازم الببلاوى، وما تنطوى عليه من ضغوط لاتخاذ إجراءات على طريق العدالة الاجتماعية. ولذلك يمكن فهم السياق الذى صدر فيه قرار رفع الحد الأدنى لأجور العاملين فى المؤسسات العامة إلى 1200 جنيه. فقد حظى موضوع رفع الحد الأدنى باهتمام سياسى يتجاوز طابعه الاجتماعى فى السنتين السابقتين لثورة 25 يناير، وصار شعاراً يلهب الحماس ويدغدغ المشاعر بعد أن بلغ الظلم والفساد فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك أعلى مبلغ نتيجة سياسات زادت الفقراء فقراً وأفقرت قطاعاً واسعاً ممن كانوا مستورين.
ولذلك فعندما حملت ثورة 25 يناير العدالة الاجتماعية ضمن أهدافها الرئيسية، بدا شعار الحد الأدنى كما لو أنه هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه العدالة التى لم يتحقق منها شىء خلال المرحلة الانتقالية الأولى والعام الذى حكم فيه «الإخوان» من خلال الرئيس السابق محمد مرسى. وما إن اندلعت ثورة 30 يونيو وجاءت بحكومة تضم عدداً من الوزراء المؤمنين بالعدالة الاجتماعية حتى صار شعار الحد الأدنى للأجور فى مقدمة جدول أعمالها، ولكن بلا دراسة مستوفية أو رؤية واضحة لموقعه فى إطار هذه العدالة، وبدون سياسة عامة متكاملة لتحقيقها.
وعندما يحل الشعار محل السياسة، وتشتد الضغوط لتنزيل هذا الشعار على الواقع، لا يجد من يتعرض لهذه الضغوط مجالاً لطرح السؤال البديهى عند رسم أى سياسة عامة وهو سؤال الخيارات والبدائل والأولويات. ولذلك لم يُطرح السؤال، مثلاً، عما إذا كان رفع الحد الأدنى لأجور حوالى مليون ونصف المليون عامل وموظف فى المؤسسات العامة هو ما ينبغى أن يحظى بأولوية، أم توجيه الموارد التى ستُتفق فى هذا المجال لتحقيق ثورة فى مجال المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، والمشاريع الأقل من متوسطة، لعدد أكبر من المتعطلين وخاصة الشباب الذين لا يجدون عملاً ولا يحصلون على أجر أصلاً ويبحثون عن أى فرصة ويملك كثير منهم طاقات هائلة يمكن أن تجعل تلك المشاريع قاطرة لتحريك الاقتصاد الراكد فى معظم قطاعاته.
ولو أن مثل هذا السؤال طُرح قبل اتخاذ قرار رفع الحد الأدنى لأجور العاملين بالمؤسسات العامة لربما وجدت الحكومة أن هذا القرار يمكن أن يأتى كخطوة ثانية بعد إطلاق ثورة المشاريع الصغيرة والأقل من متوسطة.
ففى المقارنة بين الإجرائين نجد أن كلاً منهما يحقق شيئاً من العدالة الاجتماعية التى لم يعد ممكناً تأجيل التحرك فى اتجاهها. ولكن البدء بالمشاريع الجديدة يحقق هدفاً آخر فى الوقت نفسه وهو تحريك الاقتصاد والاستفادة من طاقات هائلة معطلة تتوق إلى العمل، الأمر الذى يؤدى لزيادة الإنتاج وبالتالى إيجاد موارد جديدة يمكن استخدام بعضها فى تمويل رفع الحد الأدنى للأجور ولكن بطريقة أكثر عدالة عبر تحريك المستويات التى تعلو هذا الحد الأدنى حتى لا يتساوى موظف درجة سادسة مثلاً التحق بالعمل منذ عامين أو ثلاثة مع موظف درجة ثانية أو ثالثة يعمل منذ عشرين عاماً أو أكثر أو أقل قليلاً.
وعندما يكون الاختيار بين إجراء يحقق هدفاً واحداَ وآخر يحقق هدفين، يفترض أن تكون الأولوية للإجراء الذى يتيح تحقيق إنجاز فى مجال العدالة وآخر على صعيد تحريك الاقتصاد الراكد.
وهذا هو ما لم تتمكن الحكومة من دراسته جيداً فى ظل الضغوط الشديدة عليها، وبعد أن تم اختزال العدالة الاجتماعية فى مسألة الأجور وقصره بالتالى على من يعمل ويحصل على أجر، وكأن هذه العدالة لا تنصرف إلى من لا أجور لهم أصلاً.
ولو أن هذه الدراسة أجريت بشكل موضوعى لانتهت إلى أمرين: أولهما إعطاء الأولوية لإطلاق ثورة المشاريع الصغيرة والأقل من متوسطة، والتى لا تحتاج إلى أكثر من المبلغ اللازم لتمويل رفع الحد الأدنى لأجور العاملين فى المؤسسات العامة. وثانيهما أن تأجيل رفع الحد الأدنى لمدة عام، مع التزام قاطع به فى إطار سياسة متكاملة تحدد الأولويات، يحقق أكثر من فائدة أخرى. فهو يتيح على سبيل المثال لا الحصر فرصة للتوصل إلى صيغة لتطبيق رفع الحد الأدنى على القطاع الخاص بدون الإضرار به. كما أنه يوفر إمكانية لتطوير الآليات اللازمة لفرض رقابة على الأسعار حتى لا يؤدى ارتفاعها إلى التهام الزيادة المحدودة فى الأجور بموجب قرار رفع حدها الأدنى فور تطبيقه اعتباراً من أول يناير القادم.