قال أرسطو «أحب أفلاطون وأحب الحق ولكن حبى للحق أكبر»، وبدأ فى نقد الفلسفة التى انتهى إليها أفلاطون. تعودنا دائما أن لا نرتاح إلى آراء أبناء «الكار» الواحد، رغم أن أصدق شهادة من الممكن أن تقرأها هى عندما يكتب أو يحلل مثلا ملحن إنجازَ ملحن آخر أو كاتب أعمالَ زميل.. لأنك عندما تحترف المهنة فأنت تُمسك بأدق أسرارها وتستطيع أن تحدد على وجه اليقين أوجه الإبداع وأيضا ثغرات القصور.. هذا إذا خلصت النيات وهى نادرا ما تخلص، لأنها تتدخل فيها عوامل أخرى مثل الغيرة المهنية. لو تتبعت التاريخ الحديث لاكتشفت أن أكثر الانتقادات تجريحا التى وجهت إلى عميد الأدب العربى طه حسين هى تلك التى أصابته من ابن جيله ومنافسه اللدود عباس محمود العقاد، حيث وصفه قائلا بأنه «عمى الأدب العربى». على الجانب الآخر كان طه حسين يقلل دائما من شأن إنجاز العقاد الأدبى خصوصا «العبقريات»، رغم أن العقاد كان يعتبرها عنوانه الأثير فى دنيا الأدب!!
السنباطى كثيرا ما سخر من موسيقى عبد الوهاب ويراها مسروقة من الغرب، وكان عبد الوهاب كثيرا ما يصرح بأن السنباطى لم يتطور ولا يزال يخاصم العصر. عندما قدم عبد الوهاب «إنت عمرى» لأم كلثوم التى أطلقوا عليها لقاء السحاب باعتبارها اللقاء الأول بين صوت أم كلثوم وموسيقى عبد الوهاب،كان رأى محمد الموجى وبليغ حمدى أن الأستاذ لم يضف جديدا، بينما كمال الطويل أعجبه اللحن، ولكنه لم يدل برأيه إلا بعد رحيل عبد الوهاب.. وعندما سألته قال لى كنت على خلاف معه ولم أشأ أن أسعده بهذا الرأى!!
دائما ما نردد المقطع الأول لزجل شهير كتبه بيرم التونسى فى الثلاثينيات يقول فيه «يا اهل المغنى دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله»، على اعتبار أنها تسخر من الغناء الردىء.. ولا يدرى أغلبنا أن بيرم التونسى أشار إلى أغنيات أحمد رامى ومحمد عبد الوهاب باعتبارها نموذجا صارخا للرداءة مثل «يا وابور قولى رايح على فين»، وأشبعها ذمًّا واستهزاء!!
السنباطى لم يقتنع بألحان بليغ لأم كلثوم مثل «سيرة الحب» و«بعيد عنك» و«ألف ليلة»، كان يرى أن هذه الألحان تجرح وقار أم كلثوم.. بينما قال إن أغنية «اسأل روحك» لمحمد الموجى تذكره على الفور بـ«اعملها على روحك»!! كان الصراع والتراشق بالكلمات التى لها مذاق اللكمات لا يتوقف بين وردة وفايزة أحمد، خصوصا أن كلا منهما تزوجت من ملحن.. فامتدت المعركة إلى بليغ وسلطان!!
لا أحد ينسى مثلا الخلاف الحاد بين فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ.. نعم ما تبقى فى الذاكرة هو هذا البرنامج اللبنانى الذى استضاف عبد الحليم وفريد، وانتهى بالأحضان الدافئة، إلا أن الحقيقة هى أن الأحضان أخفت جبالا من الجليد.
كان رأى أم كلثوم أن محمد قنديل هو أكمل وأهم صوت غنائى رجالى، وكانت تلمح بالطبع إلى أنها تضع قنديل فى مرتبة أعلى بكثير من عبد الحليم حافظ.. وخلافهما الحاد على الهواء فى حفل الثورة 1964 موثق. عبد الحليم حافظ أطلق عماد عبد الحليم حتى يحارب هانى شاكر، وكان رأيه المعلن أن هانى صوت بلا طموح، بينما حرصت أم كلثوم على تدعيم هانى واتصلت بخالد الأمير لكى يمنحه اللحن الذى حقق له شهرة عريضة فى بداية المشوار «كده برضه يا قمر»!!
الحياة الفنية والأدبية لم تسلم من ضربات لأبناء المهنة الواحدة، وأول هجوم تعرض له نجيب محفوظ بعد جائزة «نوبل» جاءه من يوسف إدريس، الذى اتهم الجهة المنظمة بأنها انحازت سياسيا لنجيب محفوظ لأنه مؤيد للتطبيع!!
لم يكن مثلا أحمد شوقى يرتاح إلى تلك الثنائية التى تجمعه دائما مع حافظ إبراهيم، حيث دأبت الصحافة ولا تزال أن تقول «شوقى وحافظ». كان شوقى يرى حتى قبل أن يحصل على إمارة الشعر العربى أنه لا يجوز أن يقترن اسمه بحافظ أو غيره.. وكان حافظ يعلق ساخرا لماذا يغضب أنهم يقولون «عسل وبصل» يعتبرنى أنا بصل!!
المأزق أن أبناء «الكار» دائما ما يخلطون بين الحق وأشياء أخرى، كثيرا ما يعتقد البعض أن القانون السائد هو إما أنا وإما أنت، كأنه صراع حياة وموت، رغم أن القمة تتسع للجميع، ولكن تقول لمين!!