كان قد مر على معرفتنا بخبر وفاته نحو خمس ساعات، وصلنا فى سيارة ميكروباص إلى القرية الموجودة فى إحدى محافظات الصعيد فى وسط النهار.. الجو الخانق والحرارة المرتفعة أسهمت فى إضافة وجوم وعبوس أكثر على وجوهنا.
من بداية القرية وحتى منزله لم نقابل إلا حزنا وشرودا فهو لم يكن شخصا طبيعيا فى القرية وإنما واحد من أهم المتعلمين فيها والذين أسهموا فى نشر الوعى والدين بين أهلها ممن لم يلحق أغلبهم بالتعليم.
بمجرد وصولنا إلى منزله انقبض قلبى وكدت أبكى بسبب صوت سيدة أربعينية تصرخ وتلطم على وجهها فى حزن لم أقابل له مثيلا.
ظل صوتها مصاحبا لى منذ دخولى، حتى وأنا وسط الرجال لم يغب منظرها وهى تحضر التراب من الأرض ملطخة به وجهها وملابسها.
اقترب المغرب وقررنا جميعا أن نعود من حيث جئنا فنحن لم نكن على معرفة بأحد فى تلك القرية إلا هو. وأنا فى طريق الخروج وجدتها واقفة بالخارج وحيدة تصرخ فاقتربت منها، محاولا أن أطمئنها وقلت لها إن ما تفعلينه لن يفيد المتوفى بأى شكل، بل سيزيد من سوء وضعه فى القبر. طلبت منها أن تتذكر مواقفه الجيدة، وتدعو له بالجنة، وأن تحاول الحفاظ على مكانته بأى شكل.
فوجئت بنظرة بلهاء تعلو وجهها وهى تقول: أنا ماعرفوش.. أنا المعددة «سيدة يحضرها أهل الميت لتصرخ وتلطم كإضافة لديكور العزاء ويزيد أجرها كلما زاد صراخها».
لا أعلم لماذا تذكرتهم وقتها، ولماذا هم تحديدا؟ هؤلاء المنتجون الذين يصرخون كل يوم فى وجوهنا، مرددين أن هناك أفلاما فى السينما، لا تليق بتاريخنا ولا يتحركون خطوة نحو تحسينها، يسخرون من السبكى، وأموالهم فى أحضانهم، لا يقومون بأى مخاطرة خوفا على هذه الأموال من الخسارة. تذكرتهم وهم يولولون على حال السينما، ولو فكرت فى تتبع تاريخهم لن تجد فيه فيلما واحدا يليق بأى سينما.
تذكرت النجم الذى كنت حاضرا اتفاقه مع إحدى شركات الإنتاج والذى رفض أن يتنازل عن جزء من أجره مساهمة منه فى إنقاذ صناعة على وشك الانهيار، مختتما حديثه بسؤال: «أيوه يعنى وأنا مالى؟» تذكرت أيضا محايلات المنتج الذى باع كل ما يملك لتصوير هذا الفيلم، مشيرا إلى أن الجزء الذى سيتنازل عنه النجم هو تكلفة الفيلم كله من أجور وإنتاج وخلافه.
وكان رفض النجم سببا فى توقف الفيلم للأبد «بالمناسبة أنا لا أطالبه بالتنازل عن أجره، فهذا حقه فى النهاية، لكنى فقط أطالبه بالسكوت وأن لا يخرج علينا باكيا، لأن السينما انهارت والصناعة باظت».
تذكرت كل هؤلاء وغيرهم وأنا أكتم بداخلى ضحكة تقول لهم إذا كنتم ترغبون فعلا فى لعب هذا الدور «المعددة»، أحب أقول لكم حاجة واحدة: «أوكا وأورتيجا بيعملوا فيلم يا رجالة».