عندما تحدث «البنا» عن الوطن
ولعل من حقى أن أسأل القارئ هل تستطيع الإمساك بالزئبق؟ إن استطعت فسوف تستطيع أن تمسك بالموقف الحقيقى للجماعة من أى قضية تهم الوطن، وتهمك شخصيا. القول ونقيضه وهما معا يبقيان لتستخدمهما الجماعة عند الحاجة.
هكذا كان الأمر منذ البداية.. وهكذا حتى عهد مرسى.. وحتى اليوم
لكن البنا مع ذلك لا يقدم أى برنامج سياسى كامل لبلد يخوض معركة تحرر من الاستعمار، بل لعله قد تهرب كثيراً من تحديد أى موقف سياسى واضح من أى قضية قومية أو وطنية أو اجتماعية، وإذا ما سئل كأى زعيم سياسى عن برنامجه أجاب: «نحن مسلمون وكفى، ومنهاجنا منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفى، وعقيدتنا مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى»، ثم هو لا يزيد الأمر تفصيلاً، فإذا أبدى البعض شكوكه حول إمكانية العمل السياسى دون برنامج سياسى وطنى متكامل اتهمه الشيخ بأنه «مريض القلب، سيئ الظن، فهو يطعن ويتجنى ويتلمس للبراءة العيب، وكلا الأمرين وبال على صاحبه وهلاك للمتصف به».
غير أن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ لا يمكن لرئيس جماعة سياسية أن يقتحم ميدان العمل السياسى معلناً أن الإسلام «طاعة وحكم ومصحف وسيف» دون أن يدفع الجميع إلى التساؤل حول من الذى سيستعمل السيف؟ وضد من؟ ولعل التساؤلات بدت فى محلها تماماً عندما استخدم السيف بالفعل أسلوباً فى تعاملات الجماعة مع خصومها.
وإذا أردنا مثالا آخر للتلاعب بالألفاظ والمواقف ومراكمة مناقضاتها جنباً إلى جنب كى يُستخدم أى منها عند الضرورة نقرأ للأستاذ البنا فى «نحو النور». «لابد من جديد فى هذه الأمة، هذا الجديد هو تغيير النظم المرقعة المهلهلة، التى لم تجن منها الأمة غير الانشقاق والفرقة، وهو تعديل الدستور المصرى تعديلاً جوهرياً بحيث توحد فيه السلطات».
وفى رسالة المؤتمر الخامس يقول البنا: «إن من نصوص الدستور المصرى ما يراه الإخوان المسلمون مبهماً وغامضاً ويدع مجالاً واسعاً للتأويل والتفسير، الذى تمليه الغايات والأهواء، فهى فى حاجة إلى وضوح وإلى جديد وبيان.. هذه واحدة، والثانية هى أن طريقة التنفيذ التى يطبق بها الدستور أثبتت التجارب فشلها، وجنت منها الأمة الأضرار لا المنافع، فهى فى حاجة شديدة إلى تحديد، وإلى تعديل يحقق المقصود ويفى بالغاية، ولا بد أن تكون فينا الشجاعة الكافية لمواجهة الأخطاء، والعمل على تعديلها، أما الأمثلة التفصيلية والأدلة الوافية، ووصف طرائق العلاج والإصلاح ففى رسالة خاصة إن شاء الله».
لكن البنا سرعان ما يتراجع بعد أن تلقى تأنيباً وتحذيراً ممن كان يخشاهم، ويخشى أى تصادم معهم أى من رجال القصر الملكى، ومن ثم يعود متراجعاً «إن الدستور بروحه وأهدافه العامة لا يتناقض مع القرآن من حيث الشورى، وتقرير سلطة الأمة وكفالة الحريات، وإن ما يحتاج إلى تعديل منه يمكن أن يعدل بالطريقة، التى رسمها الدستور ذاته».
بل هو يواصل تراجعه إلى درجة تثير الدهشة «ما كان لجماعة الإخوان المسلمين أن تنكر الاحترام الواجب للدستور باعتباره نظام الحكم المقرر فى مصر، ولا أن تحاول الطعن فيه، أو إثارة الناس ضده، وحضهم على كراهيته، ما كان لها أن تفعل ذلك، وهى جماعة مؤمنة مخلصة تعلم أن إهاجة العامة ثورة، وأن الثورة فتنة، وأن الفتنة فى النار».
لماذا كل هذه القعقعة إذن؟ ولماذا الحديث عن الجهاد وعن النظام الإسلامى، وعن التغيير الجذرى، إذا كان النظام القائم سواء فى عهد جلالة الملك فاروق (صديق الإخوان)، أو فى عهد جمال عبدالناصر (عدوهم) مقبولاً من جانبهم، ولا ينكرون «الاحترام الواجب له، باعتباره نظام الحكم المقرر».
فقد تحسب البنا من التصادم المفتوح مع السلطة، وخشى من الثورة، التى قد تنقلب ضده، فأوقع نفسه بين شقى الرحى، يريد ولا يريد، يطالب بنظام إسلامى وبالجهاد بحد السيف من أجل تحقيقه، ثم يقبل بما هو قائم، ولا يحاول الطعن فيه، أو إثارة الناس ضده.
لكننا نخطئ إذا تصورنا أن البنا كان سياسياً يتلاعب بالموقف ونقيضه وفقط، فقد قدم متسللاً ودون أن يلقى ضوءاً كثيفا على الكلمات، محدداً بدائل لكل شىء. صحيح أنه يقولها عابراً ودون ضجيج، لكنه يعنيها فى حقيقة الأمر.
ففى مقابل دستور 23 قال القرآن دستورنا.
وفى مقابل الزعامة المهيبة لمصطفى النحاس، أو حتى سلطة الملك فاروق قال الرسول زعيمنا.
وفى مواجهة الوطن والسعى لاستقلاله كأرض لأبنائه المصريين رفع شعار الخلافة الإسلامية، وبدلاً من مصر وطنه، ومن مواطنيه المصريين يتحدث عن الوطن الإسلامى قائلاً «إنه يسمو عن الحدود الجغرافية والوطنية وعلاقات الدم إلى وطنية المبادئ الإسلامية».
وفى مقابل النضال المشترك مع الشعوب العربية الشقيقة، والتعايش السلمى مع من لا يبدأ بالعدوان علينا قال «إن الدور عليكم فى قيادة الأمم وسيادة الشعوب، وتلك الأيام نداولها بين الناس».
وفى مواجهة تصاعد النضال الاجتماعى والطبقى فى مصر خلال بداية الأربعينيات، وتصاعد حدة الإضرابات العمالية يقول البنا «أما موقف الإسلام من الأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال فليس بيننا، وبينهم إلا أداء الزكاة»، ويقول «إن الله يحب الغنى الشاكر، ولا يحب الفقير الناكر».
وكان ذلك كله حديثاً عن المسار الأول، الذى رسمه البنا لجماعته، وهو تراكم المواقف المتناقضة دون التخلص من أى منها، أما المسار الثانى فيمكن تلخيصه فى عبارة موجزة هى «لعبة المصالح المشتركة مع الطاغوت»، والطاغوت لغة هو الشيطان أو الحاكم المتجبر، وعند الإخوان هو الآخر أى آخر حتى ولو كان حليفاً أو رفيق درب.
فقد رسم حسن البنا مساراً جديداً فى السياسة المصرية، وهو التحالف مع أى شخص أو جماعة أو دولة مهما كانت حدة العداء معها، هذا إذا ما حقق ذلك التحالف أو التقارب أو الولاء مصلحة مباشرة له.
وإذ يتردد البعض من رجاله إزاء مثل هذا التحالف، وإزاء نتائجه، التى قد تنقلب عليهم، فإنه يطمئنهم بأن الله معهم وسوف يحميهم من تآمر الطاغوت، مردداً «وكان حقاً علينا نصر المؤمنين»، لكن التجارب المتوالية أثبتت أن هذه اللعبة غير الأخلاقية لا تلبث فى كل مرة أن تنقلب وبالاً على الجماعة، ذلك أنه فى كل الحالات خرجت الجماعة من هذه اللعبة مثخنة بالجراح، قد يطفو فى الأفق فى البداية بعض نجاح غير أن النتيجة النهائية لكل مباريات أو محاولات اللعب مع الطاغوت، والتلاعب به كانت الهزيمة أو ما تسميه أدبيات الجماعة المحنة. فالله لا ينصر المراوغين والمتلاعبين، الذين يقفون من أجل مصلحة ذاتية مع الأعداء، سواء أعداء فكرتهم أو أعداء الوطن محليين كانوا أو أجانب.
وعلى أى حال يمكننا أن نقدم بعضاً من لعبة المصالح المشتركة مع الطاغوت.
فعلى مدى الفترة من 1936 إلى 1948 تحالف البنا مع رجال القصر الملكى، ثم انقلب عليهم ومع الوفد، ثم انقلب عليه، ومع إسماعيل صدقى ثم انقلب عليه، ومع حزبى الأقلية السعديين والأحرار الدستوريين، ثم انقلب عليهما، وكان قتل النقراشى، ومحاولة قتل إبراهيم عبدالهادى.
كما فعلوا بذات النهج الملتوى بعد ذلك ففى 1952 تحالفوا مع عبدالناصر، وفى 1954 حاولوا اغتياله، ثم حاولوا اغتياله مرة أخرى فى 1956. وتحالفوا مع السادات وتواطأوا عليه، وتهادنوا مع مبارك وانقلبوا عليه، ثم المشير وفعلوها معه. إنها سياسة ثابتة لا تتغير ولا تثمر إلا ثماراً مريرة، لكنهم لا يتعلمون فهكذا أمرهم البنا، وهم بأوامره إلى الأبد ملتزمون، وفى أيام مرسى تحالفوا مع أمريكا، ثم هم يهاجمونها الآن.
ولن نستهلك مساحة كبيرة من الكتابة عن لعبة المصالح المشتركة بين البنا والقصر الملكى، الذى كان يمثل الطاغوت المعادى للشعب، وتلخصت فيه كل مقومات العداء للوطن، والخضوع للاحتلال، وخدمة كبار الملاك على حساب جماهير الشعب، ذلك أن علاقة البنا بالقصر، وإصراره على العمل فى خدمته أصبحت محلاً لكتابات كثيرة بحيث لا تحتاج إلى بحث جديد، وهو على أى حال ظل حريصاً على تأكيده مبايعة الملك بحيث دفع المتظاهرين من أعضاء الجماعة، الذين كان يجرى حشدهم كلما احتاج القصر إلى دعم فى مواجهة جماهير الوفد تحت الزعامة المهيبة للنحاس، ليتجهوا إلى ساحة قصر عابدين (مقر الملك) هاتفين «الله مع الملك»، مؤكدين «نهبك بيعتنا على كتاب الله وسنة رسوله».
لكن لعبة المصالح المشتركة مع القصر انتهت نهاية مأساوية – فرغم عمل متواصل فى خدمة القصر الملكى منذ عام 1930 وحتى 1948، تحولت الصداقة إلى عداء مشتعل انتهى بحل الجماعة، ومقتل البنا نفسه، لكن ثمة وجها آخر لهذه اللعبة هو العلاقات بالقوى الاستعمارية.
ولنبدأ بأكثر القصص إثارة، وهى علاقة حسن البنا بالقوى الفاشية والنازية إبان الحرب العالمية الثانية، ولأن كل شىء عند حسن البنا يجب أن يكتسى برداء إسلامى حتى يمكن للجماهير البسيطة أن تبلعه، فإن تقلبات المواقف السياسية، ومناوراتها كانت تكتسى هى أيضاً برداء الإسلام، وحتى العلاقات المريبة بأعداء الوطن كانت كذلك.
وفى مجلة «النذير» قبل أن تخرج بعيداً عن يديه زف حسن البنا لقرائه ما يبرر علاقته بالنازيين والفاشيست قائلاً: «ذكرت بعض الصحف أن إيطاليا وألمانيا تفكران فى اعتناق الإسلام، وقررت إيطاليا تدريس اللغة العربية فى مدارسها الثانوية بصفة رسمية وإجبارية، ومن قبل سمعنا تفكير اليابان فى الإسلام، وقد تجددت هذه الشائعة فى هذه الأيام، ولا شك أن هذه الدول الثلاث قد وضعت فى برنامجها التقرب التام إلى العالم الإسلامى، والتودد إلى العرب والمسلمين، وقدمت لذلك مقدمات كبناء المساجد ودعوة الشباب العربى إلى المدن والعواصم عندهم، ثم «وهذا استعداد طيب تعلنه هذه الدول، إذا أضفنا إليه موقف الدول المسيحية منها من الكنيسة، وخروجها على تعاليمها، وموقف اليابان من ديانتها الوثنية وتبرمها من طقوسها، وأضفنا إلى ذلك كله أن هذه الدول إنما تعجبها القوة والكرامة والفتوة والسيادة، وأن هذه هى شعائر الإسلام»، ولسنا بحاجة إلى القول بأن كل هذه المعلومات كاذبة تماماً، ولا أصل لها، وبعد سلسلة الأكاذيب هذه نجد البنا يضيف وكأنما ينسب هذا الفضل الوهمى إلى نفسه «لقد كتب الإخوان المسلمون إلى ملوك المسلمين وأمرائهم وعلمائهم وحكامهم بوجوب التبليغ رسمياً إلى هذه الأمم باسم الإسلام».
ولمزيد من حبك هذه الأكذوبة يكتب الأستاذ البنا – وفى العدد ذاته – رسالة إلى شيخ الجامع الأزهر يدعوه فيها إلى تبليغ ألمانيا وإيطاليا واليابان بالإسلام، وضرورة قيامهم بدراسة تعاليم الإسلام دراسة علمية صحيحة، مع إمدادهم بالعلماء لشرح مفهوم الإسلام، وأن تمنح الجماعة حق التبشير بالإسلام، وحق إقامة المؤسسات الإسلامية، ثم كانت الشائعة التى تناثرت فى كل أرجاء مصر عن انتماء هتلر نفسه للإسلام، وأنه تسمى سراً باسم «الحاج محمد هتلر».
وهذه الأكذوبة التى تفوق كل ما يمكن أن يتصوره عاقل يمكن اتخاذها نموذجاً للمدى، الذى يمكن أن تصل إليه عملية تسييس الدين، أو طلاء المواقف السياسية الخاطئة، بل المعادية لمصالح الوطن والدين بطلاء دينى زائف، كى تكتسى الخيانة ببريق دينى.
ففيم كان ذلك كله؟ تناثرت شائعات بأن البنا لم يعد يكتفى بالعلاقة مع المقربين من ألمانيا من رجال السياسة المصرية من أمثال على ماهر وعزيز المصرى، وإنما أقام بنفسه ولنفسه جسوراً مع الألمان أمدته بدعم مالى كبير يمكنه أن يفسر الإمكانات المالية، التى انهالت فجأة على البنا، والتى كان يغطيها بالدعوة لفتح باب التبرع، ثم يعلن بعدها بأيام قليلة أن التبرعات فاضت عن المطلوب، وقد فعلها الأستاذ البنا مرات عديدة منها الدعوة لجمع 8500 جنيه لشراء مقر للجماعة، ثم وبعدها بيومين أعلن أن المبلغ المطلوب قد تمت تغطيته.
وتتحول الشائعات إلى تقارير رسمية ففى لقاء بين السير والتر سمارت، المستشار الشرقى للسفارة البريطانية، مع وكيل وزارة الداخلية المصرية، حسن باشا رفعت، صرح وكيل وزارة الداخلية بأن معلوماته تقول إن الأستاذ البنا تلقى إعانات مالية من الإيطاليين والألمان والقصر، وفى زيارة أخرى يكرر محمود غزالى، مدير الأمن العام، الاتهام ذاته، وإن كان قد أضاف إليه أن الأستاذ البنا قد احتفظ ببعض هذه الأموال لنفسه شخصيا.
وتظل هذه الاتهامات معلقة بلا دليل جدى، ونظل نحن معتقدين أنها مجرد ادعاءات أو شائعات سياسية يطلقها الأمن ليبرر بها مواقف ما، ضد خصم سياسى.
حتى أتيح لنا أن نمتلك وثائق رسمية تؤكد صحة هذه الاتهامات.
فأخيراً وبالمصادفة، وخلال البحث فى الأرشيف العام للخارجية البريطانية عثرت على برقيتين من السفير البريطانى إلى وزارة خارجية تحتويان على ترجمة إنجليزية لبعض أوراق مكتوبة بالألمانية ضبطت لدى «ولهلم ستلبوجن» ونقرأ.
مكتب الأمن العسكرى – مصر
f.o 371-23342
22-10-1939
Herr Wilhelm Stellbogen
الهير ولهلم ستلبوجن، مدير مكتب الدعاية النازية (D.N.B) بمصر، بالإضافة إلى توليه مسؤولية الملحق الصحفى بالبعثة الألمانية بمصر بشكل مؤقت، وهو لا يتمتع بأى صفة دبلوماسية.
عثر عنده لدى تفتيشه على مذكرة مكتوبة بالاختزال ومؤرخة فى 18 أغسطس، وتقول: «لقد أرسلت إلى حسن البنا مرة أخرى المبلغ ذاته بالطريقة نفسها»، لكن الإخوان المسلمين طلبوا مزيداً من المال، رغم أننى سلمتهم مبلغ الألفى جنيه، الذى وصل باسمهم من ألمانيا، والذى وعدناهم به».
ثم ترجمة لورقة أخرى مكتوبة بالآلة الكاتبة الألمانية مؤرخة 16 /8 تقول:
إن دفعة جديدة من الأموال لجماعة الإخوان المسلمين قد أصبحت فى اعتقادى ضرورية جداً. لا بد من الاتصال ببرلين فوراً عن طريق البعثة لطلب ميزانية إضافية. إن المحادثة التى جرت مع ح.ب (حسن البنا) حول المسألة «ب» كانت مرضية تماماً، وقد أعرب عن كامل رضائه عنها.
أما البرقية الثانية فتتضمن ترجمة عن الألمانية لأوراق أخرى ضبطت لدى الشخص ذاته، وفيها:
مكتب الأمن العسكرى – مصر
f.o 371-23343
عثر لدى المذكور على المذكرات التالية:
لقد أكد مؤتمر الإخوان المسلمين أن الوضع الراهن سيئ للغاية، وأعلنوا باسم العرب أن القتال فى فلسطين هو حرب مقدسة، وأن واجب كل مصرى هو مساعدة المقاتلين هناك.
قرر المؤتمر البدء فى حملة تبرعات لدعم القتال فى فلسطين.
وأيضاً «مذكرة بالاختزال تقول: أرسلت البعثة مرة أخرى لحسن البنا المبلغ ذاته بالطريقة نفسها، هؤلاء الناس يمكنهم فعل أشياء كثيرة».
ومثل هذه الوثائق لا تحتاج إلى أى تعليق.
ويكون طبيعياً أن يستشعر الإنجليز الخطر من علاقة كهذه، وما إن تمكنوا من الإطاحة بحكومة على ماهر باشا، صديق الألمان، وصديق حسن البنا حتى بدأوا فى الضغط على رئيس الوزراء الجديد «حسين سرى باشا»، لاتخاذ إجراء ضد حسن البنا، ويروى د. محمد حسين هيكل، وكان آنذاك وزيراً للمعارف فى مذكراته «أبلغت السلطات البريطانية حسين سرى باشا بأن حسن البنا يعمل لحساب المحور، ورأت ضرورة الحد من نشاطه، ورأى سرى باشا أن ينقل الرجل من القاهرة إلى الصعيد، فحدثنى فى هذا الأمر طالباً نقله إلى قنا، ولم أجد بأساً من إجابة طلبه»، لكن أمر النقل ما لبث أن ألغى فوراً بأمر من القصر الملكى.
غير أن السلطة البريطانية عادت فطلبت القبض على حسن البنا هو وأحمد السكرى، وعبد الحكيم عابدين وعدد آخر من الإخوان، وبالفعل ألقى القبض عليهم فى 19 أكتوبر 1941.
ويروى شاهد عيان وهو الأستاذ «أحمد حسين»، زعيم «مصر الفتاة»، وكان معتقلاً معهم فى معتقل الزيتون «اعتقل حسن البنا وقادة الإخوان فى مستهل الحرب كغيرهم، فما راع المعتقلين إلا أن حضر إلى المعتقل الأستاذ حامد جودة (الوزير السعدى فى حكومة حسين سرى باشا)، واجتمع بحسن البنا عدة ساعات، ثم ما لبث أن أفرج عنه بعد بضعة أيام»، ويفسر أحمد حسين ذلك بأنه تعبير عن رغبة حزب السعديين فى استغلال حركة الإخوان لدعم نفوذه، ويقول «وخرج الشيخ من المعتقل، وقد ازداد جاهاً ونفوذاً، ومضى فى دعوته حراً طليقاً يجوب البلاد، ويؤلب الشعب وينظم الاجتماعات، واشتهر فى البلاد بأن الإخوان المسلمين فى حماية الحكومة، وفى حماية السعديين بصفة خاصة
لكن جورج كيرك يقول «إن الإفراج عن حسن البنا قد تم بضغط من القصر، الذى ساد الاعتقاد أنه يقدم للبنا مساعدات مالية شخصية، ويعزز هذا الرأى الأستاذ محمد صبيح، أحد قادة (مصر الفتاة)، الذى قال فى مناقشة مع د. عبدالعظيم رمضان إن فاروق قد حمى حسن البنا، وضغط للإفراج عنه».
وفى كل الأحوال كان البنا يتحاشى الحديث عن الموقف من الاستعمار وقضايا الجلاء، وتحرير البلاد، ويمضى مراوغاً دون تصادم مع الاحتلال فينشر فى «نحو النور» ما يمكن القول إنه برنامج مباشر، فيركز فيه على «القضاء على الحزبية، وتوجيه قوى الأمة السياسية فى وجهة واحدة، وتقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية، خاصة العربية منها، تمهيداً للتفكير الجدى والعملى فى شأن الخلافة الضائعة، وكذلك إعادة النظر فى مناهج تعليم البنات، ووجوب التفريق بينها وبين مناهج تعليم الصبيان فى كثير من مراحل التعليم» وهكذا أشياء كثيرة فى نواح متعددة، لكن لا حرف واحدا عن الاستعمار أو ضد الاحتلال.
وعلى أى حال فبعد هزيمة دول المحور ما لبث البنا أن تحول وبسرعة، وأخذ ينسج علاقات أخرى مع قوى أخرى غير ألمانيا، وهى تحديداً النقيض، أى الاحتلال البريطانى، ونقرأ فى بحث عن جماعة الإخوان، أعده Heyworth dunne استناداً إلى ما سماه مصدرا إخوانيا كان على علاقة بالسفارة البريطانية «إن حسن البنا قد ألمح خلال الاتصالات مع السفارة، ومن خلال عناصر وسيطة إلى أنه على استعداد للتعاون، وأنه سيكون سعيداً لو أن مساعدة مالية قدمت إليه»، ويلاحظ باحث آخر أن البنا قد تسحب من علاقته مع الألمان فى الوقت المناسب، «ولم يسمح لرجاله بأن يشاركوا فى المظاهرات، التى هتفت عام 1942 إلى الأمام يا روميل».
وبعد الحرب العالمية الثانية مباشرة يلتقى الأستاذ البنا بمستر «سبنسر»، المراسل الحربى الأمريكى، ويدلى له بحديث نشرته مجلة الإخوان المسلمين، وفيه أبدى البنا استعداده للتحالف العسكرى مع الغرب، وقال «أحب أن يفهم الغربيون أنه إذا أعطيت الحريات لنا بواسطة الدول الغربية فإننا لا نستغنى عن الغرب فى تقوية كياننا»، ونقرأ أيضاً:
«وعبر قنوات عديدة تقارب البنا مع الإنجليز، ومن هذه القنوات الأمير محمد على، ولى العهد، الذى ظل على الدوام، ورغم تقلبات الملك فاروق مقيماً على عهد الولاء للإنجليز، وكتعبير عن صداقة جديدة أهدى ولى العهد مكتبة إسلامية ضخمة للمركز العام للإخوان المسلمين فى الحلمية الجديدة».
ونتوقف فقط لنتأمل، فحسن البنا الذى ظل على مدى طويل على علاقة وثيقة جداً بالملك فاروق كان أيضاً على علاقة حميمة مع خصمه الدائم واللدود الأمير محمد على.
ثم بدأ البنا فى تقديم خدمات فعلية للإنجليز، ولتقديم البرهان على قدرته على تقديم تلك الخدمات على مستوى جماهيرى اتفق البنا مع وزارة الداخلية على تحجيم المظاهرات، التى كان مقرراً أن تندلع يوم 2 نوفمبر 1945 بمناسبة ذكرى وعد بلفور، وقام البنا بنفسه بنصح المتظاهرين بالانصراف والتفرق، وبهذه المناسبة يكتب «والتر سمارت»، المستشار الشرفى للسفارة، إن جماعة الإخوان قد أفشلت المظاهرة بين صفوف الطلاب، واعتبر الوفد هذا الموقف نوعاً من الخيانة، وعلى أى حال فإن حكومة النقراشى تبدو كما لو أنها قد نجحت فى استمالة الإخوان، علماً بأن سياسة الإخوان تتحاشى وقوع أى صدام مع الحكومات المتعاقبة، بينما يدعمون هم مواقعهم، ثم يقول «وعلى نحو مشابه نجدهم يحاولون استمالتنا خوفاً من أن نقوم بالتحريض على أى عمل ضدهم».
كذلك فقد تحالف الإخوان حلفاً وثيقاً مع إسماعيل صدقى، الذى كان حليفاً وثيق الصلة بالإنجليز، بل تعاونوا معه فى ترويج معاهدة صدقى - بيقن ودون أدنى حرج يقف القائد الطلابى للإخوان «مصطفى مؤمن» معلناً تأييده إسماعيل صدقى مستخدماً الآية الكريمة «واذكر فى الكتاب إسماعيل أنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبياً».
وترويجاً لمعاهدة صدقى - بيقن، التى رفضها الشعب المصرى رفضاً كاملاً وأسقطها وأسقط صاحبها تحدث الإخوان طويلاً فى تبريرها مستندين إلى «صلح الحديبية».
ويروى الأستاذ صلاح الشاهد، وكان أحد العاملين فى القصر الملكى فى مذكراته «عندما توصل صدقى باشا إلى اتفاقية مشروع صدقى – بيقن توهم أن الإخوان المسلمين يمثلون قاعدة شعبية ذات وزن فاستدعى المرشد العام بعد وصوله من لندن بساعتين، وأطلعه على مشروع الاتفاقية قبل أن يطلع عليها النقراشى وهيكل، المشاركان له فى الحكم، وحصل على موافقته على المشروع، ولما اشتدت المظاهرات الشعبية ضد هذه المعاهدة طلب صدقى باشا من المرشد العام أن يركب سيارة سليم زكى – مساعد حكمدار القاهرة – المكشوفة ليعمل على تهدئة المظاهرات. واستجاب المرشد العام لطلب صدقى باشا، ودهش المصريون إذ شاهدوا صورة البنا تملأ صحف اليوم التالى، وهو يركب سيارة سليم زكى محاولاً تهدئة المظاهرات، وتبقى هناك مفارقات بالغة الأهمية، وبالغة الدلالة، فالمناورة تستدعى مزيداً من المناورة، بل قد تستدعى المناورة المضادة.
فما إن اختلف البنا مع إسماعيل صدقى حتى حرك جهازه السرى لنسف أغلب أقسام الشرطة، وترويع العاصمة، بهدف ترويع صدقى باشا «نلاحظ أنه التكتيك ذاته، الذى يتبعونه الآن بحرق أقسام الشرطة، وترويع أصدقاء الأمس ونسف السيارات...إلخ»، كما حرك جهازه السرى لنسف سيارتى شريكى صدقى فى الوزارة هيكل باشا والنقراشى، أما المفارقة الأخرى وبالغة الدلالة فهى أن السيارة التى ركبها البنا صحبة سليم زكى خدمة لأهداف الأمن والإنجليز فى تهدئة المظاهرات هى ذاتها التى تلقت قنبلة حارقة من أحد طلاب الإخوان لتحرق السيارة وتقتل سليم زكى.
وعلى أى حال فإن شهر العسل الإخوانى – الإنجليزى لم يكن بلا معنى فكرى ومغزى سياسى، فالمؤرخ الأكثر تأييداً لجماعة الإخوان «د.إسحق موسى الحسينى» يقول مبرراً هذه العلاقة الإخوانية بالإنجليز «إن تحرير وادى النيل كله من النفوذ الأجنبى كان مطلباً يلى فى الأهمية لدى الإخوان مطلب إقامة الحكومة الإسلامية، وحتى أمريكا تلقت هى أيضاً غزلا كثيراً من الإخوان، فالأستاذ مصطفى مؤمن يتوجه نحو أمريكا قائلاً بأعلى صوت «أيها الأمريكيون أنتم الشعب الحر وقواد الديمقراطية».
ولم يكن الأمر مقصوراً على الأستاذ مصطفى مؤمن، فالأستاذ البنا لمح تصاعد النفوذ الأمريكى فى العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولاحظ اهتمام أمريكا بالأوضاع فى المنطقة، وفى مصر على وجه الخصوص، فقرر كعادته أن يجدف بقاربه فى اتجاه هذه القوة الصاعدة، وأن يناور معها هى الأخرى.
ويورد الأستاذ محسن محمد فى كتابه «من قتل حسن البنا» عديداً من النصوص المنقولة عن وثائق الخارجية الأمريكية المودعة بمكتبة الكونجرس نطالع بعضاً منها معاً:
«التقى الأستاذ حسن البنا مع فيليب إيرلاند، السكرتير الأول للسفارة، يوم 29 أغسطس 1947 وعندما أشار إيرلاند إلى المظاهرات الحاشدة التى وقعت هذه الأيام. أراد البنا أن يوهمه بقدرته على إشعال المظاهرات وإخمادها. فقال فى بساطة «لن تكون هناك اضطرابات جديدة فإن بوسعى بدؤها وإنهاؤها، ورد عليه إيرلاند: من المشكوك فيه أن نتمكن من إنهاء الفتنة بعد إشعالها».
وقد استخدم البنا كأداة للتقارب مع أمريكا سلاحاً مهماً فهو عدو للشيوعية، التى كانت قد ظهرت على سطح الأحداث المصرية آنذاك، مدركاً أن هذا الأمر شديد الإغراء بالنسبة للأمريكيين. وطلب البنا مقابلة ثانية مع إيرلاند، وتم اللقاء فى بيت إيرلاند، وحضره محمد الحلوجى، من قيادات الجماعة، والدكتور محمود عساف، مدير إعلانات صحيفة الإخوان، وأشار حسن البنا إلى خطر الشيوعية فى الشرق الأوسط، وأن الإخوان المسلمين يحاربونها بكل الوسائل الممكنة، ويضطر أعضاء الجماعة أن يتركوا عملهم الأصلى لدخول الخلايا الشيوعية للحصول على المعلومات، وعندما يفعلون ذلك فإنهم يتركون وظائفهم، وبذلك يفقدون رواتبهم، وإذا أمكن تعيينهم على أساس أنهم محققون وباحثون فإن هذه المشكلة يسهل حلها»، ثم اقترح إنشاء مكتب مستقل مشترك بين الإخوان والحكومة الأمريكية لمحاربة الشيوعية، وقال إيرلاند فى تقريره إنه فهم من هذا العرض أن تتولى الولايات المتحدة تمويل وإدارة المكتب، وأن يكون أعضاؤه – فى الأغلب – من الإخوان، وقال إنه رفض العرض فقال البنا «لا أريد إجابة الآن، ولكنى أرغب فقط فى عرض الفكرة، وسيجرى محمود عساف معك محادثات تفصيلية».
لكن هذا الرفض الأمريكى أغضب البنا، الذى قرر الضغط على أمريكا كى تقبل، فقد كان يتوقع مالاً وفيراً من مثل هذا المكتب، فنشرت جريدة الإخوان فى اليوم التالى مباشرة مقالاً بعنوان «أمريكا والعالم العربى» شنت فيه هجوماً عنيفاً على الأمريكيين، وفيما كان إيرلاند فى زيارة لصديق مصرى للبنا، تعمد البنا أن يحضر المقابلة، وقال له إيرلاند «أشعر بالدهشة لأنك عرضت بذل جهود مشتركة بين الإخوان والسفارة، وفى اليوم التالى مباشرة نشر عمر عزمى مقالاً فى جريدة الإخوان حمل فيه بعنف على أمريكا وسياستها، ووصفها بأنها مخادعة، وهاجم نزاهة الأمريكيين عامة»، ورد البنا رداً «سابق التجهيز» قلل فيه من قيمة المقال وكاتبه، وقال إنه مجرد رد فعل متحمس لما يشعر به الإخوان إزاء أسلوب أمريكا فى فلسطين، ثم قال - وهذا هو المهم - و«على العموم آمل ألا يؤثر هذا الحادث على اقتراحاتى السابقة».
وتداهم الأحداث الجميع، فالجماعة كانت على أبواب محنتها القاسية، التى انتهت بحلها وقتل النقراشى، ثم مقتل حسن البنا، ولكن ما إن تستعيد الجماعة أنفاسها حتى تبدأ فى عام 1953 محاولة جديدة للتقارب مع أمريكا، وهى محاولة رتب لها المرشد العام الجديد، المستشار حسن الهضيبى، عن طريق شقيق زوج ابنته.
ويبدو أن الأمريكيين فى كلتا الحالتين لم يبتلعوا الطعم الإخوانى، فالتعليقات فى النصوص الكاملة للوثائق توحى أحياناً بعدم الثقة، وتوحى فى أحيان أخرى باعتقادهم أن الإخوان يبالغون فى قدراتهم أكثر من اللازم فقد كتب مندوب CIA فى تقريره «قال لى مندوب المرشد إنهم قادرون على إزاحة ناصر وعامر من السلطة، وأعتقد أنهم يحاولون تصدير وهم كبير إلينا».
(غداً..الحلقة الثالثة والأخيرة.. وسقط القناع)