يتطرق الجميع، ومازالوا حتى الآن إلى قضية الصلة بين الدين والسياسة، وينتهون إلى نتيجة واحدة، وهى أنه لا صلة بين الاثنين، وينبغى الفصل بينهما حتى يصح الدين فى بهائه ونقائه وصفائه، ولا يُتخذ أداة فى أيدى الحكم لتبريره، وهو موقف يريد اتقاء الشر من أساسه، بجعل الدين للعبادة وتنظيم العلاقة بين الإنسان والله. فى حين أن السياسة للدنيا لتنظيم العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان. وهو تصور قاصر، لأن الدين به عبادات ومعاملات.
وتتسم المجتمعات النامية بالتنظيمات الدينية والجماعات الإيمانية وكأنها تنظيمات وجماعات سياسية. فالدين يضم الدنيا والآخرة. وفى الدين سياسة، وفى السياسة دين، الأنبياء مع أقوامهم، خاصة موسى وفرعون. وفى الدين اقتصاد، وفى الاقتصاد دين مثل يوسف وفرعون. وفى الدين بنية اجتماعية، وفى البنية الاجتماعية دين، كما فعل محمد مع قريش وشبه الجزيرة العربية.
وقضت الحركات الإسلامية المعاصرة، وعلى رأسها كبراها، الإخوان المسلمون، فى السجون. فقد اصطدمت بالنظام الليبرالى، واستشهد قائدها فى 1949. ثم اصطدم بثورة يوليو 1952 فى أزمة مارس 1954 وزج بها فى السجون مع شتى ألوان التعذيب. واستشهد مفكرها فى يونيو 1966. ثم اصطدمت بعد «كامب ديفيد» فى 1979 بالنظام القائم وزج بجماعة انشقت عنها فى السجون فى 1981 بعد اغتيال الرئيس، ثم زج بمعظم أعضائها فى السجون حينا وأفرج عنهم حينا مع بقائهم تحت الكبت النفسى، فعاشت نفسية السجين. وتصورت العالم هو السجن والمواطنين هم السجانون والنظام هم أصحاب الزنازين. وفى الداخل راجع البعض أنفسهم باستقلال تام أو بمعونة أجهزة الأمن. ومن مظاهر رد الفعل على التدين المكبوت، خريج السجون، مظاهر التدين الشعبى كالجلباب والطاقية والذقن والصلاة فى أوقاتها وأداء الشعائر جماعة، والأذان بالإضافة إلى تقديم بعض الخدمات الاجتماعية والطبية فى ملحقات المساجد لاستدراج الزوار إلى الجماعة الدينية كمقدمة لتحويلها إلى الجماعة السياسية.
ومعظم الأعضاء من الشباب الأطهار، من طلبة الجامعات، خاصة من الكليات العملية التى تريد أن تحقق شيئا. فى حين أن طلبة الكليات النظرية وأقسام الآداب فيها تستطيع أن تعبر عن عواطفها الدينية من خلال قراءة الأعمال الأدبية أو تأليفها. فالدين والفن صنوان. ويعبر الشباب عن عواطفه الدينية بأعماله الأدبية أو بعواطفه الدينية عن أعماله الأدبية. يعبر الشباب عن الأمل فى المستقبل. وهو مثالى النزعة. لا يرى إلا المثال ممكنا، وأن الممكن مستحيل.
حدثت له صدمتان: الأولى صدمة وَجْد. فقد وجد نفسه أخيرا فى مجلسى الشعب والشورى، وفى اللجنة العليا لوضع الدستور له الأغلبية. ووجد نفسه فى الرئاسة يضرب له الوزراء التحية بمن فيهم وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة. يعطى العسكرى التحية للمدنى. وهو نصر كبير للمجتمع المدنى. والثانية صدمة فقد. إقالة العسكرى للمدنى من جديد، انقلاب كما يرى الإخوان، أم ثورة، كما ترى باقى التيارات المدنية، ليبرالية، وناصرية، واشتراكية، وماركسية، وقومية. أمسك بالسلطة ديمقراطى، وهو ما كان يسعى إليه منذ حوالى ثمانين عاما. يعين، ويزيح من أجل «أخونة» الدولة عسكريا ومدنيا. ووصل إليها ديمقراطيا، فحصل على أول رئيس مدنى فى البلاد مستندا إلى أغلبية حتى ولو كانت ضئيلة. حصل على كل شىء فى الدولة بطريقة الحزب الحاكم. ثم فقد كل شىء بطريقة التدخل العسكرى الذى كان يعبر هذه المرة عن إرادة الشعب، وليس عن إرادة طغمة. فقد الشباب الصواب بعد أن سُحب البساط من تحت قدميه، ولم يصدق عينيه. فآثر الاعتراض بشتى وسائله: المظاهرات والاعتصامات، واستعمال العنف أحيانا لما كان هو أيضا يعبر عن إرادة الشعب. فأين إرادة الشعب؟ فلا حل إلا الانتخابات المبكرة بناء على إرادة شعب يقظة. وتكون التجربة الأولى مفيدة لكل الأطراف.
وتكون مفيدة فى تفسير آية «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ» أو «وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ». وهو شىء طبيعى لا يستدعى إراقة دماء من أى من الطرفين. الأول باسم الشرعية الصورية، والثانى باسم الإرادة الشعبية. والاستبداد فى النهاية هو الاستبداد، الاستبداد العسكرى أو الاستبداد الأجنبى أو الاستبداد الدينى. الكل يقوم على الزهو والخيلاء بالرغم من آية «وَلا تَمْشِ فِى الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً»، «وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».
ونظرا لانسداد الحراك السياسى الخطر فإنه يعبر عن نفسه فى الحراك الدينى: كثرة التكبيرات: تكبير، تكبير، وكثرة الشعارات الدينية التى يظهر فيها الله مخلصا: «لا إله إلا الله»، «هى لله... هى لله»، «الله أكبر ولله الحمد». ففى مواجهة «الله» لا يستطيع أحد الاعتراض كما يعترض على السلطان. كما يتكرر شعار «إسلامية... إسلامية» لتطبيق الشريعة الإسلامية، وتتكرر صرخات الصوفية «الله حى» فى مقابل البشر المائتين. ويزهو لباسهم الأخضر وعمتهم الحمراء وأعلامهم الخضراء عليها آيات بيضاء ودفوفهم المستديرة الكبيرة التى تخفق مع ضرباتها القلوب، وتغمض الأعين، وتهتز الأرداف، وتتأرجح الصدور والأكتاف يمينا ويسار. وتتحرك الجذوع أعلى وأدنى.
فالوجد الدينى اغتراب سياسى. والنشاط الدينى كبت سياسى. وإطلاق الشعار الدينى هو تصويب خارج الهدف أو تصويب خاطئ.
الدين والسياسة واجهتان لعملة واحدة، واجهة إلى السماء وهى الملك وهى الدين. وواجهة إلى الأرض وهى الكتابة وهى السياسة. الأولى واجهة التعصب. والثانية واجهة العلم. ويحتاج قلب العملة إلى جهد كبير للتحول من الدين إلى العلم، من التعصب إلى العقل، ومن السماء إلى الأرض. وهو ليس مجرد تحول فى الرؤية، بل هو تحول فى المسار التاريخى للمجتمع ينبئ بالتقدم. ولقد جاهد الغرب فى التحول من الدين إلى العلم. ونحن نجاهد للتحول من الدين إلى السياسة، من الاستبداد الدينى إلى التحرر الديمقراطى.