هذه وطنية أشكُّ فى وجودها الآن عند بعض مَن يرفعون رايات الدين والأخلاق.
اقرأ يا سيدى وتمعَّن واعرف.. ثم قل لى.
كانت مصر حتى الأربعينيات من القرن الماضى تسمح رسمىًّا بالبغاء، لا مؤاخذة، فكانت هناك بيوت بغاء مفتوحة بموافقة الدولة وغانيات وعاهرات يحمِلْن رُخَصًا حكومية من مكاتب الصحة بخلوِّهن من الأمراض بما يسمح لهن بممارسة البغاء فى أحياء وأماكن مشهورة ومعلومة، مثل حى كلوت بك مثلًا. وحين اندلعت الحرب العالمية كانت مصر مسرَحَها الساخن، حيث جنود الإنجليز ومعهم جنسيات من أستراليا والهند وغيرهما كانوا فى معسكرات منتشرة فى أرجاء الوطن.. والجنود بَشَرٌ فى أزمة ومحتاجون إلى ترفيه، والترفيه يعنى الذّهاب إلى دور البغاء. المفاجأة جاءت من هنا، إذ إن الغانيات والعاهرات فى مصر رفضْن بكل إباء وشمم وكبرياء وطنى صميم عظيم أن يفتحْن سيقانَهن للجنود المحتلين والأجانب وكانت ظاهرة بكل المقاييس، أن العاهرات المصريات لا يسمحْن للأجانب بممارسة البغاء فى بيوتهن ولا معهن، حتى المرأة اللى، لا مؤاخذة، ساعة الوطن وفى حب الوطن تلاقيها آخر وطنية، مما دفع قوات الاحتلال الإنجليزى إلى استيراد عاهرات أجنبيات مخصوصات إلى مصر بالتعاون مع غانيات أجنبيات مقيمات أصلًا فى القاهرة والإسكندرية وقضُّوها كده. المدهش كذلك، «مرجعى فى هذه المعلومات كتب الدكتور عبد الوهاب بكر عن تاريخ العالم السرى والبغاء فى مصر»، أن الرجال المصريين من باب الوطنية ورفض الاحتلال والأجانب لم يقتربوا من العاهرات الأجنبيات ولم يفضلوهن أبدًا، فكانت دور البغاء وطنية وصناعة محلية ترفض، الزبون والعاهرة، أن يدخل بينهما أجنبى محتل غادر.
ومع الفارق الكبير والهائل طبعًا فهناك راقصة شهيرة وقتها لعبت عدة أدوار فى أفلام سينمائية، ومنها فيلمان من بطولتها شخصىًّا، كانت من باب الوطنية تعمل جاسوسة لحساب الألمان أعداء الإنجليز ولم يجد الرئيس الراحل أنور السادات أية مشكلة أو غضاضة أو حساسية فى أن يصلح لها جهاز الإرسال و«لا سلكى الإشارة» الذى كانت تستخدمه فى التجسس. أما الراقصة الأخرى فكانت علامة على الوطنية الحقيقية والشرف السياسى، فقد كانت تخبئ فى بيت من بيوتها بعضًا من المناضلين الهاربين من قبضة الإنجليز وكانت ترسل إليهم الأكل والطعام وبعض التمويل لشراء الأسلحة والمتفجرات.. إن الوطنية فى قلب كل مصرى حتى اللى لا مؤاخذة، بينما نرى الآن مَن يدعو للتدخل الأجنبى ومَن يكره بلده وشعبه ومَن يدعو للإرهاب والتخريب، والمطلوب منَّا أن نحترم هؤلاء، بل ونصالحهم، وللأسف بعضهم برخصة أيضًا!