في الاحتفال بعيد ميلاده الثالث والسبعين، يبدو المبدع الكبير سيد حجاب (23 سبتمبر 1940) متألقا وحاضرا بشكل لافت، على مستوى الشعر والإبداع، وعلى مستوى التقدير الرسمي (المتأخر) بحصوله على جائزة الدولة التقديرية، وعلى مستوى السياسة بمشاركته الإيجابية في لجنة كتابة الدستور ممثلا للمبدعين المصريين.
هناك العديد من العناصر التي تشكل الملامح الرئيسية لسيد حجاب، فهو ابن مدينة المطرية دقهلية، مدينة الصيادين، التي صنعت مخزونه الأساسي من حكايات البحر والجنيات، كما أنه خريج الهندسة التي تتجلى في منمنمات أعماله الشعرية، وألعابه الشهيرة بالحرف واللغة، وهو أيضا الشاعر الذى اختار لسنوات طويلة أن يكون إبداعه عبر قصائد عامية في المسلسلات التليفزيونية، وهى المساحة التي قدم فيها إنجازا يجعله يقف على قمتها منفردا وعلى بعد كبير من لاحقيه، هذا بالطبع دون أن نغفل باقي أعماله من دواوين شعر، وبرامج إذاعية، ومسلسلات، وأغنيات للأطفال وغيرها.
لكن علاقة حجاب بالدراما التليفزيونية هي علاقة طويلة وممتدة، قدم فيها العشرات من أشعار العامية التي غناها كبار المطربين بتلحين العمالقة، فصارت كل منها علامة مميزة تحمل خاتم حجاب الخاص، ويكفى في هذا السياق أن نذكر في عجالة أسماء مسلسلات: الأيام، الشهد والدموع، أرابيسك، عصفور النار، الوسية، ليالى الحلمية، بوابة الحلوانى، المال والبنون، والعشرات غيرها.
أدخل حجاب العديد من الجمل والتراكيب والألعاب اللغوية على مقدمات المسلسلات، بشكل حقق لها نقلة غير مسبوقة، خاصة أن جمهور التليفزيون بشكل عام اعتاد التعامل مع مقدمات المسلسلات باعتبارها شيئا مكملا، بسيطا، لا يثير التفكير العميق، فوجد نفسه فجأة يسمع ويردد: (مهما تكون فيه عتمة ومواجع/ العتمة سور ييجي النهار تنهار)، و(قالوا الشيطان شاطر وله ألف صورة/ قلنا ما يقدر ع اللى خيره لغيره)، و(مين اللى قال الدنيا دى وسية/ فيها عبيد مناكيد وفيها السِيدْ)، أو (وينفلت من بين إيدينا الزمان/ كأنه سحبة قوس ف أوتار كمان)، أو مقدمة بوابة الحلواني عن مصر: (وادي وبوادي وبحور وجسور ومواني/ توحيد وفكر وصلاة.. تراتيل غنا.. وابتهالات).
مع سيد حجاب أصبحت أغاني المسلسلات تحمل عمقا لم يكن متوافرا قبل ذلك (باستثناء الأبنودي)، وألعابا بالحروف والكلمات لم يعتد مشاهد التليفزيون –الذى لا يقرأ الشعر غالبا- أن يستمع إليها أو يفكر فيها، وهذه النقطة بالتحديد ربما تكون أبرز ما فعله حجاب مع الدراما التليفزيونية.
ومع إنتاج سيد حجاب الغزير، سأتوقف عند تجربة، أشعر بشكل شخصي أنها واحدة من القمم العالية في الكتابة باللغة العامية، وأعمق التجارب التي استلهم فيها حجاب مخزون الصعيد من المشاعر والكلمات ليعيد صياغتها في قصيدتين تمثلان بداية ونهاية مسلسل «الليل وآخره»، اللتين انطلقتا إلى آفاق أرحب بلحن ياسر عبدالرحمن وصوت علي الحجار، وسأكتفي في هذا السياق بملاحظاتي على قصيدة البداية.
تمثل الأغنية حزن الرجال في الصعيد عندما تتكاثر الهموم لدرجة انحناء ظهر حاملها، وعدم قدرته على العثور على حل واضح وهو ما يبدو منذ اللحظة الأولى (يا بوي ع الليل وآخره/ لمن تصحى جروحي/ حمل وماجدرش أتاخره/ عني وع توِّج روحي)، نلاحظ منذ الوهلة الأولى استخدام الكلمات كما ينطقها الصعايدة، وكما تعبر عن حالاتهم النفسية، والبداية مع (يابوي) وهي كلمة صعيدية بامتياز تستخدم في حالات الاندهاش، والمفاجأة، والحزن الشديد وفق سياق الجملة، وبطبيعة الحال فإن آخر الليل هو الوقت الذي يعايشه الشخص الذى لم يذق طعم النوم، وبعد ساعات من المعاناة تستيقظ جروحه لتصرخ بالألم، لأن الحمل الثقيل يطبق على نفس صاحبه بعنف لدرجة لا تسمح له بإبعاده عنه، ونرى في مقدمة الأغنية استخداما عبقريا لكلمة ربما لا يعرفها الكثيرون من أبناء المدن، أو أهل بحري، وهى كلمة (توج) التي كانت تستخدم قديما لوصف اشتعال نيران (الوابور)، واستخدامها في هذا السياق ينقل درجة اشتعال النيران في صدر بطل الأغنية.
بعد هذه المقدمة المدهشة، يأخذنا حجاب في جولة داخل عقل البطل (زحام أوهام ماليني/ بادعي اللهم ليني/ ياهمومي وهمليني/ وبدال ما تاجي روحي)، في هذا المقطع يلعب حجاب بالكلمات وهى منطقته الأثيرة (مالينى/ لينى/ هملينى)، حيث يأخدنا لما يشبه مربعات الواو درة الشعر الشعبى في الصعيد، ونلتقط هنا أيضا كلمة (همليني) الصعيدية بامتياز والتي تعني اتركيني لكن الترك المطلوب هو الإهمال التام، وبينما تزدحم الأوهام في عقل البطل لا يوجد حل سوى الدعاء والأمل في أن تذهب الهموم ولا تأتي.
فى المقطع الثالث، يحكي الشاعر القصة وراء هذه الهموم المتكررة والدائمة (ليلاتي ف الميعاد ده/ ينعاد عمري اللي عدى/ وألقى الماضي اللى عدى/ ع الحاضر يستعدى/ والحزن ف قلبى ناخره/ والريح ناح فوق سطوحي/ ويابوي ع الليل وآخره/ لمن تصحى جروحي)، والقصة كما تبدو هي تاريخ قديم، لكنه يطارد حاضر البطل ويعتدي عليه بقسوة، ولنا أن نلمح استخدام لفظ «النخر» الذي يعنى تفتت الشيء وتلفه بسبب عوامل الزمن غالبا، أما «يستعدى» فهي أيضا كلمة صعيدية بامتياز خاصة فيما يتعلق بالاعتداء على الحقوق.
وبما أنه لا توجد حلول واضحة لهذه الهموم المتراكمة، لا يبقى إلا الدعاء (بادعي لله تعالى/ يطفي شوقي وحنيني/ يا فجر يا جاي تعالى/ زيح حمل تقيل حانيني/ ليضيع كنزي اللى داخره/ ودوحي روحي روحي/ ويا بوي ع الليل وآخره/ لمن تصحى جروحي)، ولنا أن نتخيل الحلم في أن يستجيب الله للدعاء بإطفاء الشوق والحنين وهو ما يعطينا لمحة عن درجة الاشتعال التي نتذكرها سابقا من (توَجْ)، كما يقدم حجاب لعبة صغيرة بالكلمات في (حنيني/ حانيني) والأولى من المشاعر والثانية من الانحناء، أما الفجر القادم فهو لن يفعل أكثر من إزاحة الحمل لعدة ساعات هي فترة النهار، وبعدها ستتكرر المأساة ثانية عندما يبدأ الليل ولا ينتهي إلى آخره.
عمنا سيد حجاب.. كل سنة وانت طيب