تعمقت حالة الانقسام فى المجتمع المصرى على نحو غير مسبوق، فقد انقسم المصريون إلى فريقين، فريق يتبع تيار الإسلام السياسى وآخر مصرى مستمسك بالهوية المصرية، بالدولة الوطنية الحديثة. القضية لا تتمثل فى الانقسام فى حد ذاته، فكثيرة هى الانقسامات داخل المجتمعات من أولية (موروثة) كالدين والعرق واللغة، أو مكتسبة كالانتماء السياسى والاجتماعى والاقتصادى، ولكن القضية تتمثل فى حدة الانقسام من ناحية والرؤية التى يحملها كل فريق تجاه الآخر، وهل تسمح حدة الانقسام والرؤية المتبادلة بتحقيق التوافق أو حتى التفاهم أم لا؟ مصر بهذا المعنى كانت ولا تزال متعددة، متنوعة وتحتوى عوامل انقسام أولية ومكتسبة، مصر بها مسلمون (سنة وشيعة) مسيحيون (أرثوذكس، كاثوليك وبروتستانت) وبها بهائيون وغيرهم، مصر بها أقباط (أى مصريون من أصول مصرية) وبها نوبيون وبدو عرب. كما أن بلدنا كأى بلد طبيعى فى العالم به انقسامات ثانوية أو مكتسبة، ومن توافق هذه الشرائح والعناصر عاشت مصر آلاف السنين وقدمت نموذجها فى العيش المشترك. طوال الوقت كانت الاختلافات موجودة والتناقضات قائمة، لكن كانت معها قدرة على إدارة هذه التناقضات وكانت هناك أيضا رغبة مشتركة فى الوصول إلى التوافق الذى يمكن البلد من مواصلة العمل.
مع تبلور ما أطلق عليه الربيع العربى وما حملت ثورة يناير من مفاجآت تتعلق بقفز تيار الإسلام السياسى على السلطة واستغلال آليات الديمقراطية فى الوصول إلى السلطة، بدأت تجربة الاستحواذ على السلطة وإقصاء التيارات الأخرى تماما، بدأت أكبر عملية لتغيير هوية البلد، بدأت مرحلة التمكين التى مثلت بالنسبة لتيار الإسلام السياسى بداية مشروع الخلافة عبر الانطلاق من مصر، فرأينا تحالفا إقليميا دوليا فيه تركيا وقطر وعدد من الدول التى يوجد فيها التنظيم الدولى للجماعة، ومعه الولايات المتحدة وعدد من دول غربية التى كانت تتطلع إلى إبرام صفقة مع ما أطلقت عليه «الإسلام السياسى المعتدل» يحكم من خلاله دول المنطقة كما يحلو له ويستدعى عناصره من الغرب لتعيش فى ظل النموذج الإسلامى المأمول ويوقف كل محاولات استهداف المجتمعات الغربية وفى نفس الوقت يراعى مصالح الولايات المتحدة والدول الغربية فى المنطقة ويرعاها.
عقدت الصفقة وبدأ تيار الإسلام السياسى فى الاستحواذ على السلطة ونشر خطاب الانقسام وكراهية التيارات الأخرى، بدأت سياسة نشر كراهية الآخر الدينى، فكان التحريض على الأقباط واستهدافهم، تلاه سياسة زرع الكراهية طائفية فكان التحريض على الشيعة، ومن ثم كان القتل والسحل والتمثيل بالجثث، ثم جاء وقت الحديث عن الإيمان فقط بكل من هو منتمٍ للجماعة وقريب منها. وبدأت بعملية زرع الكراهية فى النفوس، حيث بات أنصار الجماعة والتيارات المتحالفة معها يكرهون من قلوبهم باقى المصريين بصرف النظر عن الدين، الطائفة والمذهب، فكل من هو لا ينتمى للجماعة ليس محل ثقة ولا مكانة متساوية له فى دولة الإخوان وكشف العنف الممارس من الجماعة بحق المتظاهرين المحتجين على حكم المرشد والجماعة عن حالة متقدمة من الكراهية للمصريين من غير تيار الإسلام السياسى، ومنطقى أن يحدث التبادل فى المشاعر فباتت الكراهية متبادلة بين أنصار تيار الإسلام السياسى وباقى فئات وشرائح المجتمع المصرى.
بمرور الوقت وبعد خلع مرسى بفعل ثورة الثلاثين من يونيو تجذرت الكراهية بين أنصار تيار الإسلام السياسى وبين باقى فئات المجتمع المصرى، فقد مارس أنصار التيار كل أشكال العنف والإرهاب، قتلوا شبابا مصريا أنهى خدمته العسكرية، وكان القتل بدم بارد، اعتدوا على جنود الجيش وضباطه، حرقوا مدرعات الجيش وآلياته، أشعلوا النيران فى منشآت الدولة، حرقوا الكنائس ونهبوا ممتلكاتها ودنسوا مقدساتها، ألقوا بالشباب المصرى من فوق الأسطح، قتلوا ضباط وجنود شرطة ومثّلوا بجثثهم عكس تعاليم الأديان وقواعد الأخلاق والقيم الإنسانية.
امتدت الكراهية المتبادلة لتشمل كل شىء حتى طالت الأذواق العامة ووصلت إلى الرموز والأغانى الوطنية، فبدا واضحا أن تيار الإسلام السياسى بات يكره الرموز المصرية وصولا إلى النشيد الوطنى والعلم، بات يكره كل ما يرمز لمصر الحضارة والتاريخ، ووصلت الكراهية إلى مؤسسات الدولة، فباتوا يكرهون الجيش والشرطة والقضاء، باتوا يمقتون الإعلام المصرى والفنون المصرية والمبدعين المصريين فى كل المجالات، وصل الانقسام فى المجتمع المصرى إلى درجة تؤشر إلى وجود شعبين فى مصر، صحيح نسبة تيار الإسلام السياسى ومن يواليه لا تتعدى ما بين ١٥ إلى ٢٠٪، إلا أن الصحيح أيضا أنه انقسام حاد وتناقض فى كل الجوانب، فكل ما يعشق التيار الأول ويحب ممقوت من التيار الثانى، وما يراه التيار الثانى انتصارا يستوجب الاحتفال يراه الأول هزائم تستوجب الحزن وربما الحداد، كل ما يراه التيار الأول جميلا يراه الثانى قبيحا. انظر إلى الأغنية الشعبية التى تمجد الجيش المصرى (تسلم الأيادى) يرقص عليها مصريون فى أفراحهم، ويشعر قطاع واسع من المصريين بالنشوة والسعادة عند سماعها، وتثير هياج الطرف الثانى وتدفعه إلى الاعتداء على كل من يستمع إلى هذه الأغنية.
نعم مصر اليوم مصران، وشعبها أصبح شعبين، فهل يمكن أن تستمر مصر مع هذا الانقسام أم أن هناك حلولا لهذه الحالة التى قسمت مصر والمصريين إلى فريقين متناقضين فى كل شىء حتى المشاعر والوجدان؟