من الجمل الحوارية المعتادة فى الأفلام جملة «سابتنى وراحت لواحد جاهز». وبعدها تصبّ لعنات البطل على الحبيبة «الخائنة». المشهد يفترض مباشرة أن هذه البطلة اختارت «الفانى» وسابت «المتفانى»، ومش بعيد لأننا مجتمع بيموت فى النكد إننا نحرق البطلة بجاز قبل نهاية الفيلم، جزاء مستحقًّا وعقابًا واجبًا.
لكن تعالَ للواقع. من الوسائل المهمة فى تقييم شخصية الإنسان إنجازاته، ومهاراته. وبالتالى فإن ما يكسب وما يملك واحدة من الطرق الناجعة جدًّا لقياس هذا. وأنا هنا لا أعنى أن التقييم يجب أن يتحول إلى عملية حسابية، أبدا. إنما أعنى أن هذه الأمور يجب أن تلفت النظر، وتجذب الانتباه. وهنا سأركن جانبا مَن ورثوا «الممتلكات» من أسرهم. ليس لموقف منهم، وإنما لأنهم ليسوا موضوع هذا المقال. ما سوى ذلك فإن القدرة على الكسب مرتبطة كثيرا بالذكاء وسعة الأفق والنشاط والمرونة. وهذه صفات شخصية جيدة جدا. وأصحابها -فى معظم الأحوال- يتميزون بالثقة بالنفس وبالعملية فى التفكير. ولا يقضون الوقت بحثا عن إجابات غير مفهومة لأسئلة وجودية. ولو تعرفتِ أو تعرفتَ إليهم، لو اقتربتما منهم دون أحكام مسبقة، فسوف تكتشفان -غالبا- أنهم «أظرف» كثيرا من الفاشلين الناقمين، أو أصحاب النزعة «النصائحية»، تجار الكلام. ونسبة الطالح فى الناجحين أقل.
خلِّى بالك. الكلام اللى فوق دا مش غرضه إن الواحد لما يختار، أو الواحدة لما تختار، تختار دول. لأ. كل شخص يختار مَن يناسبه. إنما الغرض أن أقول لمن تجد نفسها أو يجد نفسه ميالَين للناجحين، العمليين، أن لا يخجلا من نفسيهما ولا من خياريهما. لو كان الموضوع هنا المفاضلة بين الاختيارات لشرحت وجهة نظرى فى تفضيل الصفات الإنسانية للشخصيات الناجحة. لكن هذا ليس موضوعنا. المهم، لا تخجلى من طريقة اختيارك، ولا تخجل من طريقة اختيارك. كيفما كانت.
نرجع للفيلم، قبل النهاية البطل طبعا بيبقى غَنِى ويغنّى «بلاش عتاب القلب العاصى تاب، والجرح القاسى طاب، ما صدقت إنه طاب يا حبيبى». دا الوجه الآخر من الموضوع. يعنى لو كان الأخ (أو الأخت) موهوبا كده من زمان، وعنده مستقبل، بس محتاج شوية صبر، فمن الذكاء النظر لقدام، ولو لأ، لو موهوم، وفقرى، وكسلى، ومابيتحركش من مكانه، ومشبّعك شعارات، فاوعى يصيبك بعدوى الوهم، اقطعى له كارت لو نفسك انسدّت على طول. ماتخليش الناس تقنعك إنك شخص «ندل» أو خلافه. أو إن مشاعرك تتحرك فى اتجاه مصالحك. ليه؟ لأن مافيهاش أى حاجة إن مشاعرك تتحرك فى أى اتجاه انتى عايزاه. مافيش اتجاه أفضل من الثانى، فيه اتجاه «أنسب» ليكى ولشخصيتك من التانى. كون الحزن ملحميًّا، والفرح لحظيًّا -كما لاحظت هبة خطاب على «فيسبوك»- لا ينبغى أن يجعلنا نمجد الحزن، ولا أن نستحلى الغرق فى دوامته.
وهذا المقال أيضا قد يُفهم خطأً فى أمر آخر. الكلام كله موجَّه إلى الذكر والأنثى. إنما الذكر فى المجتمعات الذكورية لديه مشكلة إضافية، وهى خوفه المرضى من الناجحات. النجاح يتعرض للهمز واللمز فى مجتمعنا بمناسبة وبلا مناسبة، بدافع من غِيرة أو بدافع من عجز، بسبب اختلال فى الوعى أو بسبب اختلال فى الأولويات. هذا بالنسبة إلى النجاح بوجه عام. إنما نجاح المرأة مأساته مع مجتمعنا أكبر. أريد أن أقول لك لا تتوقف عند هذه الأمور. الاختلاط بالناجحات الموهوبات يكسبك خبرة، ونظرة إلى الحياة، ودافعا. كل واحدة من هذه المكتسبات تستحق وحدها أن ترجح اختيارا على آخر. الفشل، مع الرجل أو المرأة، مرتبط بالنقمة ومرتبط بضيق الأفق، إلا فى استثناءات نادرة.
لزياد الرحبانى أغنية يقول فيها: «قلتى لى حبيتك، لأنك زعلان بِتْضَلّ (تظل)، وبتضل منكوت، ولأنك أخوت» ثم يقول: «وعدتى تركتينى، لأنى زعلان بَضَلّ، وبَضَلّ منكوت، ولأنى أخوت». هذه الأغنية التى يلوم فيها على حبيبته لأنها تغيرت ناحيته، فيها شىء مما أقوله هنا. الأغنية فى الواقع تعبر عن شخص، فى هذه الحالة امرأة، نضجت، واكتشفت أن هؤلاء الأشخاص الغارقين فى الشعارات الكبيرة، المدعين أن الكون مش فاهمهم ولا مقدّرهم، ليسوا أكثر من وهم كبير. أو على الأقل، ليسوا الصورة المثالية إلا لمن مثلهم، لمن يحبون الأجواء «اللى مليانة شجن». مشّيها اللى مليانة شجن.