استكمالا لحديث أمس، فإن المستشار طارق البشرى فى سياق مرافعته الطويلة دفاعا عن هذا الشىء المسمَّى «حركة قضاة من أجل مصر»، وبينما هو يجاهد لكى يسوِّغ وجود بعضهم فى بؤرة العفن التى أقامتها جماعة الشر السرية فى منطقة رابعة العدوية ويدفع عنهم تهمة العمل بالسياسة المحظور شرعا وقانونا على حراس العدالة، فقد نبَّه معالى المستشار قرّاء «المرافعة» التى اختار لها عنوان «يحاسبون قضاة رابعة.. ويتركون قضاة التحرير»، إلى أن البلد ما زال يعيش «.. فى ظروف ثورة بدأت فى يناير 2011، وهى ثورة شعبية بدأت وتستمر بحراك شعبى تتتابع أحداثه، ولا يكاد يشبهها فى (تاريخ) مصر الحديثة إلا ثورة 1919»، ثم أشار فى فقرة طويلة منقولة من كتاب للمؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى إلى ما جرى فى هذه الثورة القديمة خصوصا عندما «.. أضرب المحامون فى المحاكم ووافق معظم القضاة على ذلك وأجّلوا القضايا، فلما صدر منشور من وزارة الحقانية بعدم الاستجابة للإضراب لم يعمل معظم القضاة بهذا المنشور واستجاب قضاة لمظاهرات المحامين وخرجوا من المحاكم..»!!
وقبل أن أجاوبك عزيزى القارئ، عن سؤال: لماذا ختمت الفقرة السابقة بعلامتَى التعجب؟ دعنى أنقل لك الاستنتاج الذى توصل إليه المستشار البشرى من هذه الإطلالة السريعة على أحداث التاريخ، فهو قال نَصًّا:
«لم يقل أحد إن كان ذلك (السلوك من القضاة فى ثورة 1919) اشتغالا بالسياسة، لسبب بسيط وهو قيام هذا الشعور الكاسح للشعب كله فى حدث يقرُّ فقهُ القانون أنه من الأحداث التى تبلغ فى غلبتها مبلغ القوة القاهرة التى من شأن حدوثها أن تعفى أى ملتزم من التزامه..»!!
أظنك يا عزيزى عرفت الآن سبب استعانة العبد لله بعلامات العجب، فأولا: أين هو وجه الشبه بين بؤرة «رابعة العدوية» المسلحة وبين فاعليات ثورة يناير 2011 وثورة 1919، حتى يكون القياس عليها سليما ومقبولا ومفيدا فى تأسيس البراءة التى يطلبها جناب المستشار لموكليه فى حركة «قضاة من أجل مرسى» من تهمة التورط فى عمل تجاوز السياسة إلى الإجرام؟! وثانيا: ما «القوة القاهرة» التى جعلت حفنة بائسة تسربت فى غفلة من الزمن إلى منصات العدالة «مضطرة» للذهاب إلى بؤرة العفن آنفة الذكر ومخالفة محظور قانونى خطير والفكاك من التزام أساسى و«أصيل» يقيِّد القضاة فى كل زمان ومكان؟!
لن تجد إجابة عن هذين السؤالين فى ثنايا مرافعة القاضى الجليل طارق البشرى عن أتباع «جماعة الشر» التى يتعاطف سيادته معها، لكنك ستجد فى مقال أو مرافعة سابقة نشرها قبل أسابيع قليلة وخصصها للدفاع عن «الشرعية» المزعومة لبقاء «الجماعة» فى الحكم بالعافية وغصبا ورغما عن إرادة الشعب المصرى، إذ إنه فى المقال المذكور أسس حكمه القاضى باعتبار ما جرى فى 30 يونيو وما بعده حتى يوم 3 يونيو، ليست ثورة شعبية هائلة وغير مسبوقة فى حجم وتنوع القوى الاجتماعية المشاركة فيها، وإنما «انقلاب عسكرى».. لماذا؟! يقول لك القاضى الهمام: لأن «الحشود المعروفة فى 30 يونيو توزعت على حركتين سياسيتين شعبيتين متقابلتين إحداهما ضد المؤسسات الحاكمة (..) والأخرى تدعم هذه المؤسسات، وأيا ما كانت نسبة أرجحية أىٍّ من الحركتين على الأخرى، فهما حركتان شعبيتان ليس فى مُكْنة إحداهما أن تقضى على الأخرى أو تتجاهلها»!!
وبعيدا عن أن معالى المستشار يتجاهل بهذا الكلام المخاتل حقائق مادية هائلة لا يليق بقاضٍ عادل إهمالها، أهمها وأخطرها استحالة المقارنة والمقابلة بين «فريق» عبارة عن «عصابة» تحكم وتتحكم فى البلد بقوة الغصب والبطلان (راجع المستشار طارق نفسه على الإعلان الكارثى الذى أصدره مرسى فى نوفمبر الماضى) وبين اصطفاف هائل يجمع الأغلبية الساحقة من قوى وطبقات وفئات المجتمع إضافة إلى مؤسسات الدولة كلها تقريبا.. بعيدا عن هذه الجرأة المدهشة (تشبه اجتراء «فضائحية الجزيرة») فإننا لو سلّمنا جدلا بأنهما فريقان متكافئان ومتماثلان، فإن ذلك معناه انتفاء حالة «الشعور الكاسح للشعب كله» التى تصنع ما سماه سيادته «القوة القاهرة» الكفيلة بإعفاء القضاة من «التزامهم» القانونى الصارم بعدم الانخراط فى أى نشاط سياسى.. مع شديد الاعتذار والأسف للسياسة وكل نشاط إنسانى راقٍ أُهين فى بؤرة الإجرام «الربعاوية»!!