هذا الوصف ليس لى وإنما لأعرق الصحف العالمية وهى صحيفة «التايمز» البريطانية التى أفردت للصحفى المصرى محمد حسنين هيكل افتتاحيتها فى أحد أيام شهر فبراير عام 1974 إثر خروجه من «الأهرام»، الذى اعتبرته الجريدة خسارة فادحة للصحافة المصرية ولمصر ذاتها التى خسرت - على حد قول الصحيفة - أحد أقدر وأكفأ رجالها.
تذكرت هذه الكلمات وأنا أضغط أرقام التليفون المحمول للأستاذ لأهنئه بعيد ميلاده الـ90 الذى يحل اليوم، أمد الله فى عمره ومتعنا بإسهاماته فى حياة البلاد، التى لم تتوقف طيلة ما يقرب من 70 عاماً.
كنت فى ذلك الوقت محرراً صغيراً فى القسم الخارجى بجريدة «الأهرام»، وجاءنى من وكالة رويترز، أثناء فترة ورديتى الليلية، نص الافتتاحية التى كانت ستنشرها «التايمز» فى اليوم التالى، وأثناء عودتى إلى منزلى بعد انتهاء الوردية فى الثالثة صباحاً توقفت عند منزل الأستاذ بالجيزة وصعدت إلى شقته بالدور الرابع، ووضعت نص برقية رويترز تحت عقب الباب قائلاً لنفسى: كم سيكون جميلاً أن يكون ذلك أول ما يطالع نظر الأستاذ حين يصحو فى الصباح.
كانت افتتاحية «التايمز» تتحدث ليس فقط عن دور هيكل فى الصحافة المصرية، وكيف جعل من «الأهرام» واحدة من أهم عشر جرائد فى العالم، فوضعها جنباً إلى جنب مع «لوموند» و«نيويورك تايمز» و«التايمز» نفسها، وإنما تحدثت الافتتاحية أيضاً عن أن هيكل كان رمزاً بارزاً وإيجابياً لمصر على مدى عقود متتالية، وبعد حديثها عن الخسارة التى يمثلها خروجه من «الأهرام» قالت إن هيكل مؤسسة قومية لا يجوز تنحيتها أو الاستغناء عنها.
والحقيقة أننى حين أرجع إلى تلك الافتتاحية التى كتبت منذ أربعين عاماً أجد أنها كانت مخطئة وقصيرة النظر فيما ذهبت إليه عن الخسارة التى لحقت بمصر بخروج هيكل من «الأهرام»، فقد كان ذلك الخروج، فى واقع الأمر، بمثابة تحرير لهذه الطاقة الكبرى من حدود رئاسة تحرير الجريدة إلى رحابة الحياة العامة محلياً ودولياً، فكتب الكتب التى لاقت مكانة مرموقة فى جميع لغات العالم وأصبح - حتى بعد اعتزاله الكتابة - مرجعاً وطرفاً محاوراً لا غنى عنه لأى متابع لشؤون الوطن العربى وللمشهد الدولى.
على أن ما خفى من دور هيكل أو مؤسسة هيكل فى تاريخنا الحديث أكبر وأهم مما هو معروف، وهو دور ممتد لما بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو.