يخيل لى أن فئات كثيرة فى المجتمع تتصور ونحن نصنع دستورا جديدا لمصر، يؤسس لدولة ديمقراطية حديثة، أننا نخترع العجلة، مع أن العجلة قد ظهرت للوجود قبل قرون، لكن هذا هو قدرنا أو مصابنا ومصيبتنا، «اللهم لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه»!
وقد اقتحمت بريدى على صفحتى بـ«فيسبوك» رسالة من مواطن مصرى، ضابط مهندس سابق بالقوات المسلحة، أحيل إلى التقاعد برتبة عقيد، يطالب فيها بتعديل المادة ١٧٢ من مسودة تعديل دستور ٢٠١٢، ونصها يقول: «ينظم القانون التعبئة العامة ويبين شروط الخدمة والترقية والتقاعد فى القوات المسلحة، وتختص اللجان القضائية لضباط وأفراد القوات المسلحة دون غيرها بالفصل فى كافة المنازعات الإدارية الخاصة بالقرارات الصادرة فى شأنهم. وينظم القانون قواعد وإجراءات الطعن فى قرارات هذه اللجان».
ويبدو أن هذه المادة لا تعجبه، ويريد أن يخرج المتقاعدين من تحت مظلة القضاء العسكرى إلى مظلة القضاء المدنى، باعتبارهم من لحظة التقاعد قد صاروا «مدنيين»، والأهم أن العسكريين لا يخضعون لقانون العمل الذى يخضع له كل المصريين، ويمكن أن يُحالوا إلى التقاعد دون سنة الستين، وهى السن المعمول بها فى كل قطاعات الدولة ويتصور هذا «انتقاصا» من حقوق المواطنين التى يكفلها الدستور للمصريين كافة!
ثم قال: «العسكريون المتقاعدون بالملايين وهم الفئة الوحيدة غير الممثلة فى لجنة الدستور»!
فى الحقيقة لم يعجبنى كلامه، ولهذا السبب لم أذكر اسمه، حتى لا يبدو ما أكتبه نقدا له، وهو ما لا أقصده ولا أريده، فالدستور أكبر من حوار ثنائى على البريد الإلكترونى، والأهم أن يستعمل شعارات ثورة ٢٥ يناير فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية مدخلا إلى أفكاره!
وعموما مجمل ما يطالب به غير صحيح ولا وجود له، ويصح فى القوات المسلحة لأى دولة فى العالم، فالثوابت أن القوات المسلحة مؤسسة ذات طبيعة خاصة جدا، صحيح هى مؤسسة من مؤسسات الدولة، والعاملون فيها من أصغر جندى إلى وزير الدفاع مواطنون خاضعون للدستور عامة، لكن بقواعد تفصيلية تصون لهذه المؤسسة خصوصيتها وأسرارها وتماسكها ووحدتها الإدارية والقانونية والعملية، وليس هذا انتقاصا من حقوق المواطنين بها، وإنما لصيانة أمن الوطن الذى يستلزم بعض «الخصوصية والتفرد» فى أمور كثيرة تتعلق بها.
أما حكاية تمثيل العسكريين المتقاعدين فى لجنة الدستور، فهو مطلب فانتازى للغاية، فلجنة الخمسين يستحيل أن تضم كل فئات المجتمع العامة والنوعية، لكن يجب أن تمثل كل مصالح الفئات المختلفة والأفكار الشائعة عنهم.. والدستور ليس فئويا أى نص على المصالح التى تسعى إليها كل فئة، وإنما هو «قواعد مشتركة» تجدها كل هذه الفئات متباينة المصالح قاسما أعظم لبناء تعايش سلمى متماسك وصحى داخل المجتمع، يعنى نحن لا نصنع دستورا فيه مصالح المهندسين والأطباء والصيادلة والممرضات والصحفيين والعمال والفلاحين ورجال الأعمال وربات البيوت والحرفيين والمهنيين.. إلخ، وإنما نصنع «مساحة متفقا عليها» نعيش بها وفق قواعد معلنة ومعروفة تضمن حريات وحقوق وشروط حياة جيدة لكل مصرى، نستلهم فى ذلك تجارب البشرية والحضارات فى صناعة تلك القواعد والأفكار التى صاغها البشر وجمعت حبات المجتمع فى عقد قوى متكامل!
وهذا الضابط المتقاعد ليس هو وحده الذى يتصور أن من حقه صناعة دستور يحقق مصالح فئته أو جماعته، بل تكاد فئات كثيرة فى المجتمع تطلب نفس الامتيازات والمزايا، المحامون والصحفيون يطلبون حصانة، كما لو أن العالم المتقدم ليس فيه لا محامون ولا صحفيون ولا قوانين تنظم عملهم، وأن مصر فقط هى التى عرفت هاتين المهنتين، والقضاة يريدون أن يتوسعوا فى «شؤونهم»، ومجلس الدولة يريد، والأطباء يريدون.. إلخ.
والسلفيون يريدون دستورا يطبق الشريعة الإسلامية، دون أن يحددوا لنا ما هو المقصود بالضبط بالشريعة، ولأنهم لا يعرفون فقد وضعوا المادة ٢١٩ فى دستور ٢٠١٢، التى جمعت كل الاجتهادات مهما كانت المسافة بينها أو حتى التعارض فى تفسير المقصود بالشريعة، وهى اجتهادات بشرية عملوا على أن يكسبوها «حصانة» النص القرآنى المقدس!
وكان طبيعيا أن يقترح علينا رجل دين تخصيص كوتة للمسيحيين والمرأة، حماية لهم من ألاعيب الانتخابات وداء التعصب والتمييز المنتشر إلى حد ما بين قطاعات الشعب، وهو اقتراح صعب يؤسس للطائفية فى نسيج المجتمع المصرى، إذ يريد أن نقسم الوطن دستوريا بين فئاته بالضبط كما تطلب كل فئة.
يا أهل مصر يمكن أن نفكر فى مصر ونحلم أن تكون عظيمة ونضع لها دستورا وفق هذا التفكير وذاك الحلم؟!