كنت قد شحنت بطاريتى فى الأسبوع الذى قضيته فى إنجلترا- ملأت رئتى بالأكسجين عالى الجودة وغسلت عينى بألوان الخضرة والسماء- وعاهدت نفسى والمطر ينهمر فوق رأسى أن أحتفظ بالشحنة لأطول وقت ممكن. لن أتوتر، لن أسمح لعضلات ظهرى أن تئن وتتوجع، ويا أنا يا أنتِ يا قاهرة! وفى أول احتكاك مع الشارع وجدت نفسى معتقلة داخل سيارتى وحولى كل الإخوة رفقاء نضال الانتقال فى شوارع القاهرة. بدأت أتنفس حتى أطرد شحنات التوتر. طالت الوقفة وبدأت أشعر بعروق رقبتى تنبض بعنف، مما يعنى كلبشة مرتقبة فى الرقبة وصداع سيحيل باقى اليوم إلى لون الباذنجان. مرت ساعة والسيارة لم تزحف إلا بضعة أمتار، لكن زحف الصداع كان أسرع. قهقهت شياطينى وهى تعايرنى باقتراب لحظة الهزيمة المنكرة و«ابقى بلى أكسجين إنجلترا بميه واشربيه، لن يجدى شيئا». وفى التفاتة ملولة إلى السماء لمحت القمر. كان بدرا. ووجدتنى أبتسم ولا أعرف تحديدا لماذا عبرت كلمة «بركة» فى بالى؟ ثم فكرت: ما هى البركة؟ ربما البركة هى أن تحلم بجدتك تطعمك لقيمات عيش بالعسل الأبيض وتجاعيدها تبتسم لك، فتصحو منشرحا. أو هى نظرة فى وجه أولادك تخبرك أنهم يكبرون، يخطئون ويتعلمون وهم يحاولون تلمس موقعهم فى هذا العالم. وهى أيضا ربتة كتف أو حضن يأتيك بلا انتظار فتهدأ روحك وينفتح صدرك لنفس عميق. وربما كل الألم الذى يمر بنا بركة- فهو يدمى القلب ويمزقه- لكننا نعرف أنه سيتركنا ويرحل ولو بعد حين، وبعد رحيله سنكتشف أنه ترك لك رسالة سنفتحها وحدنا فى الشرفة ليلا. التفتُ إلى يمينى فرأيت ست غلبانه تجلس على رصيف جامع وحولها قبيلة من القطط، يلعبون ويفتحون الأكياس كأنهم يتدللون على أمهم التى لا تنهرهم ولا توجه لهم حديثا مباشرا، بل إنها لا تنظر إليهم، لكنهم يتمتعون بطمأنينة أن هذا بيتهم. هل هذه هى البركة؟ أم أنها مكالمة غير متوقعة من صديق لم تحدثه منذ فترة فتكتشف أنه يوحشك جدا وتطلب منه أن تلقاه كى تحدثه عن وجع الشهور الماضية، وتأخذ مشورته فى أمر ما. وهى أيضا الأطفال الثلاث الذين يلعبون فى السيارة التى إلى يمينى، وها هو أحدهم يلصق وجهه فى الزجاج فيبدو مثل شخصية كارتونية. أضحك فيضحك هو أيضا. وأحيانا تعنى البركة أنك تنجح فى الوصول إلى موعد مع أصحابك- جسدك مدشدش ودماغك يفرمها الصداع لكن بطاريتك تقاوم الانسحاق ببسالة- وفى أثناء ساعتى اللقاء تضعون على المائدة لحظات امتنان مرت على كل منكم وأسئلة، تقلبون الحكايات كى تفهموها معا، تضحكون من القلب ولا تخجلون من التصريح بمشاعر الخوف والانكسار والتوقع. وربما البركة هى قمر يمر فوقك، يغمز لك بعينه اليمين، فينتشلك من بين مخالب القاهرة بأن جعلك تفكر فى معنى البركة.
بركة
مقالات -