تحدثنا فى المقالة السابقة عن الإمبراطور الفيلسوف «ماركوس أوريليوس قيصر» الذى انتشر فى أيامه عديد من الكوارث، واضطهد المسيحيين ولٰكنه تغير تجاههم وأوصى بهم خيرًا. وقد حكم مِن بعده ابنه «كومودوس قيصر» الذى فرِح الشعب بموته لمَيَلانه الشديد إلى سفك الدماء. ثم تولى الحكم من بعده ثلاثة أباطرة فى عام واحد ـ 193م.
«برتيناكس قيصر» (ثلاثة أشهر ـ 193م)
اجتمعت الكلمة على تولية «برتيناكس قيصر» حكم البلاد، وقد كان معلمًا للغة اللاتينية إلا أنه انتظم فى سلك الجندية وذاع صيته فى الحروب؛ حتى إنه أصبح قائدًا لفرقة عسكرية، ثم دخل فى أعضاء مجلس روما.
وقد وصفه المؤرخون بالحِلم والوداعة والعدل فى حكمه شعبَه؛ وكان يحاول التقرب والتودد إلى رعيته. وقد اهتم بالمعارف والعلوم، وعمِل على إدارة شؤون البلاد وتدبيرها حسنًا لرفع شأنها. وكان حازمًا فى الأمور المالية مهتمًا بترشيد المصاريف. وقد تأثر من نهجه هذا الأمراء الذين اعتادوا الحصول على أموال جزيلة من خِزانة الدولة، فإذ ضاقوا به ذَرْعًا وبسياسته الترشيدية قاموا بانقلاب عليه وحاصروه وقتلوه لتنتهى مدة حكمه عند ثلاثة أشهر فقط!
«ديديوس يوليانوس قيصر» (شهران ـ 193م)
بعد موت «برتيناكس قيصر»، أعلنت قوات الحرس أنهم سيضعون التاج على رأس الرجل الرومانىّ الذى سيُعطيهم أعلى ثمن نظير الحكم الذى سيُطرح للمزايدة تنتهى لصاحب أعلى سعر!! وبالفعل جرى عرض المنصب الملوكى فى مزاد. ويذكر أحد المؤرخين أنه «صعِد عدة أشخاص يصيحون على العامة بأن المملكة الرومانية فى المزاد، ومن يدفع أكثر يتولَّ منصبها». وكان الحكم من نصيب «ديديوس يوليانوس قيصر» بعد تقدمه إلى المزاد مع صِهر القيصر السابق «برتيناكس قيصر»، وتفوق عليه حيث وضع مبلغ 6250 دراخمةً على كل رأس رومانية؛ فى حين وضع منافسه 5000 دراخمةً فقط. وبهذا صار «ديديوس» قيصرًا لروما!!
وبعد فوزه بالحكم، سار فى موكب إلى القصر الملكى، إلا أن الشعب كان غاضبًا عليه من هذه المذلة التى لم يكُن لها مثيل. ولم يلبَث قليلاً إلا وشبت نار فتنة فى البلاد توشك أن تُودى بالإمبراطورية إلى تمزق وتشتت. وهكذا استمرت أحوال البلاد فى كرْب عظيم، وبالأخص بعد أن تمردت كل فرقة من الجنود على حدود الإمبراطورية على أمراء روما ـ لأنهم لم يحصلوا على أموال المزايدة كنظرائهم ـ واختارت كلٌّ قائدها قيصرًا للبلاد! أمّا «ديديوس» فكان فى روما يَنعَم بمظاهر منصبه الجديد غير مبالٍ بخطر الفتنة الذى يتربص بالبلاد. فما كان من أعضاء المجلس الرومانى إلا وأن وجهوا تهمة الخيانة إليه وحكموا بإعدامه، وبالفعل أُعدم بعد شهرين فقط من تقلده حكم روما.
وفى مِصر، لم يُعترف بـ «ديديوس يوليانوس قيصر» إمبراطورًا؛ فلم تُضرب عملة باسمه فى دار سك النقود بالإسكندرية ـ التى سبقت أن أصدرت عملات باسم «برتيناكس» وزوجته وابنه. كذلك لم يؤرَّخ باسم «ديديوس يوليانوس» أىّ وثائق مصرية.
ومن بعده تولَّى «سفروس قيصر»؛ وبهذا يشهد عام 193م تولِّى ثلاثة قياصرة حكم روما.
«سفروس قيصر» (193 - 211م)
فى خلال أحداث موت «ديديوس» كان «سفروس» خارج روما، وكان جنوده قد نادَوا به قيصرًا، فسار إلى روما بجيش عظيم أدخل الرعب إلى قلوب أعضاء مجلس روما؛ الذين لم يجدوا مفرًا من الإرسال بتهنئته على حكم روما. وعند دخوله روما، أعلن فى المجلس أنه سيحكم بالعدل وسار فى موكب إلى القصر. كان «سفروس قيصر» يميل من طفولته إلى لَعِب دور القضاة والحكام مع أصدقائه. فقد كان يجمع أصدقاءه ويَصفّهم أمامه وينسج من خياله قضية يقوم فيها بلَعِب دَور القاضى أو حاكم البلاد. ولكنْ عندما أضحت اللعبة حقيقة، صار طاغية فى حُكمه!
كان أول قرار له هو تسريح الحرس الملكى الذين قتلوا «برتيناكس قيصر»، ومعاقبة من قاموا بالفتنة عليه. إلا أنه كان يحاول التخلص من عدوَّين لدودَين يعتبرهما أكثر المنافسين له خطرًا على الحكم؛ وهما: «نيجر» و«ألبينوس». ولعلمه أنه لا يستطيع مواجهة عَدُوَّيه معًا؛ فقد أشرك معه أحدهما فى الحكم وهو «ألبينوس»، وسعى للتخلص من «نيجر» أولًا لأنه يُعده الأشد خطرًا.
وكان «نيجر» قائدًا لجيوش الشام ومِصر وبلاد الإمبراطورية فى الشرق، وقد كان محبوبًا من جنوده جدًا، كما أنه كان محبوبًا بشدة فى مِصر لدرجة أن الشعب المِِصرى اعتبره ملكًا؛ وحينما دخل الإسكندرية استقبله أهلها بالترحاب؛ حتى إن أحد المؤرخين يذكر أن ديوان الإسكندرية كُتب على بابه: «نيجر سيد هذه المدينة وصاحبها»! وكان قد تعقب القيصرُ «نيجر» فى مِصر وفر من أمامه، ثم عيَّن للإسكندرية حاكمًا من أعضاء المجلس الرومانى ليصير أول إمبراطور يخالف قانون «أغسطس قيصر» المانعَ أعضاء المجلس الرومانى من حكم مِصر، بل من الإقامة بها إلا بإذن منه. ثم تتبع القيصر «نيجر»، وأخيرًا هزمه وقتله ليتخلص من ألد أعدائه وليبدأ فى مواجهة «ألبينوس» عدوه الآخر.
كان «ألبينوس» قائدًا للجنود البريطانيين. وفى أثناء فترة مشاركته الحكم مع «سفروس قيصر»، كسب ود أعضاء المجلس الرومانىّ لحصافته السياسية؛ فكانوا يَعْضُدونه سرًا ضد القيصر. وأخيرا كان لا بد من المواجهة، فهاجم «سفروس» القائدَ «ألبينوس»، والتقى الجيشان عند مدينة «ليون» بفرنسا وتقاتلا بعنف شديد حتى هُزمت جيوش القائد «ألبينوس»؛ فقتل نفسه لئلا يقع أسيرًا فى يد عدوه. وعاد القيصر منتصرًا إلى روما وصب جام غضبه بسبب معاونة المجلس للقائد «ألبينوس»، فسفك دماءً كثيرة، ونفى آخرين حتى ارتعب الشعب مما يحدث.
وبعد أن استقرت له الأمور، رغِب فى إخضاع البلاد الشرقية لحكمه؛ فسار بجيوشه إلى القسطنطينية وحاصرها مدة طويلة وصلت إلى ثلاث سنوات حتى استطاع التغلب عليها، ونهَِب ما بها ودمرها. وكان فى الوقت نفسه، يُحارب الإنجليز ـ الذين كانوا يتفوقون عليه ـ فسار إليهم بجيوش عظيمة، إلا أنه هُزم وصارت فتنة عظيمة داخل الجيش ضده. وكان الجيش آنذاك فى قيادة ابنه الأكبر «بسيانوس كراكلا» الذى حاول قتله بسبب دفع أبيه الجيوشَ إلى الهلاك، إلا أنه فشِل. وتأثر «سفروس» من فِعلة ابنه ومات غيظًا. فتولى الحكم من بعده ابنه «كراكلا».
«بسيانوس كراكلا قيصر» (211 - 217م)
كان «سفروس قيصر» قبل موته قد أشرك معه فى الحكم ابنيه «بسيانوس كراكلا» و«سبطيموس چيكا»، وبعد موته بدآ معًا حكم البلاد، إلى أن تخلص «كراكلا» من أخيه ـ عندما علِم بمحاولته دس السم له ولم يفلح ـ وذلك بإغراء أعوانه ليقتلوا «چيكا» بين يدَى أمه! وهرب «كراكلا» إلى معسكر حرس الإمبراطور لإبعاد شبهة القتل عنه وخوفه ممن قتلوا أخاه. واشتدت ضده الفتنة بسبب مقتل أخيه، فعمِل تمثالًا لأخيه وجعله معبودًا ـ كعادة الرومان ـ حتى تهدأ الأمور له.
وقد كان هناك اعتقاد لدى الشعب فى بداية حكم «كراكلا» أنه سيكون خير حاكم لهم؛ لِما رأَوا عليه من ترفق برعيته ورفْض لأعمال أبيه الوحشية ضدها. إلا أنه بعد تولى الحكم تبدلت طباعه، وبدأ بعد قتل أخيه سلسلة من القتل وسفك الدماء حتى إن المؤرخين ذكروا أن عدد من قُتل وصل إلى قرابة العشرين ألف نفس. ومِن كثرة مَن أمر بقتله، طاردته الأحلام المزعجة التى كان يرى فيها أباه وأخاه ينتقمان منه؛ فبات لا ينام.
وقد اشتد به الهوس؛ حتى إنه أراد محاكاة الإسكندر الأكبر فى كل أعماله من ملبس ومأكل ومشرب، وقيادة الحملات لتوسيع الإمبراطورية! إلا أن الهزائم لاقته، وعاد بعد أن كابد خسائر كبيرة فى الأرواح والأموال دون فائدة تُذكر. وقد عانت مِصر فى أيامه الشدائد الكثيرة بعد أن سمِع بأن أهل الإسكندرية يصفونه بالهوس والطَّيش؛ فقام بقتلهم دون شفقة أو رحمة.
ولما انتهت حروبه بالفشل، قام عليه جنوده وقتلوه بعد أن حكم البلاد سنين لا تضاف إلا إلى فترات الذل والانحطاط للدولة الرومانية... و... والحديث عن مصر لا ينتهى...!
* الأسقف العام ورئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى