رغم كل شيء، يجب أن أوجه قدرًا من التحية لعلي الحجار على أغنيته الأخيرة السيئة «إنتوا شعب وإحنا شعب».
على الأقل اتفق معي الحجار واعترف أن في طرفي الصراع «ناسًا» وليس فقط انقلابًا عسكريًا في مواجهة إرهاب مسلح، كما حاولت أن أقول في المقال السابق.
ليست المشكلة أن تعبير الحجار كان مجرد تعبير غاضب وعدواني ضيق الأفق كجزء من صياح في مشاجرة، فالفن أحيانًا كثيرة ما يكون جميلًا، وهو يعبر عن أشياء لا نحبها في الواقع، أغنية دنيا سمير غانم «واحدة تانية خالص» مثلًا بالنسبة لي.
ولا المشكلة أن الحجار قد تحدث عن انقسام المصريين إلى شعبين، بل على العكس، يبدو لي أننا أكثر من شعبين.. ثلاثة، أربعة، خمسة شعوب، لا أدري على وجه التحديد.
ولا المشكلة أيضًا أنه وجه كلامه إلى «الشعب الآخر» قائلًا له «ابعد بعيد عن أرضنا».
فمن العادي أن نصيح في المشاجرات: «غور من وشي يا ابن الـ.. ». الأهم أن يتوقف أنصار الإمام الغائب محمد مرسي عن الاستجابة لصياحه وإنهاء حواراتهم مع «الانقلابيين» بقول: «اللهم أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها». بعد أن يحاول الواحد منهم لساعات أن يؤكد أنه لا يزال يحتفظ بشرعية حكم هذه القرية نفسها في الجيب الخلفي لبنطلونه.
ولكن لا مانع لديّ كثيرًا من هذه التعبيرات الغاضبة القانطة التي يتفوه بها كل مصري تقريبًا في مناسبات مختلفة، ولأن هذه القرية ظالم أهلها بالفعل من أوجه كثيرة، مثل كثير من القرى الأخرى.
وليست مشكلة أيضًا بالنسبة لي أن يصف الحجار «الشعب الآخر» بأن دينه مجرد تفكير في «لحى وستائر» وأنه يحب بن لادن و«الكهوف المظلمة». فأنا أُفضّل الإضاءة الهادئة عادة ولا أكره الكهوف، ولا تمثل لي أي مشكلة أن واحدًا دينه لحى وستائر ويحب الكهوف والظلام، طالما كان ذلك بعيدًا عن كهفي الخاص.
ولم يؤرقني ولا يزعجني قوله «ليكوا رب ولينا رب» فأنا لا مشكلة لديّ في تعدد الآلهة ولا في أي أشكال من المعتقدات والأديان، وفي حرية كل إنسان أن يكون كافرًا أو أن يعتقد أن غيره كافر، ما لم يتضمن ذلك تحويل حياته إلى جحيم. ولست إنسانًا سخيفًا مثل بعض أعضاء لجنة الخمسين، لكي أدعم اختيار نوع معين من العقائد ليصبح لأهله حقوق وبينما يتحول أهل بعض العقائد الأخرى إلى جحيم.
كما أني لست مُتيمًا بأسطورة التوحيد الذي اكتشفه المصريون منذ فجر التاريخ، ولا أراها إلا اسمًا مستعارًا لقيام الجنرال إخناتون بفرض دين رسمي للدولة بقوة حكم العسكر مستعينًا بوزارة الأوقاف - آنذاك- التي ضمّت كل المعابد إلى وزارة واحدة مركزية وأشرفت على تعميم العقيدة الصحيحة للفرعون العاشق على كل المنابر، منعًا لانتشار أي خطاب ديني لا يعجب رأس الدولة. ومن المعروف تاريخيًا أن الدولة المصرية لها دين رسمي ومن حقها تمامًا أن تقرر للناس ما هو الفهم الصحيح لهذا الدين.
حتى «توحيد أرض مصر» نفسه حدث تحت حكم العسكر أيضًا في عهد المشير موحد الشعبين نارمر، ويتردد مؤخرًا أن من جاء بعده وبدأ بالفعل في حكم مصر كإقليم موحد هو «الملك أها»، وربما كان اسمه تعبيرًا عن مشاعره بعد ما واجهه من صعوبات في محاولة حكم هذا الشعب الذي لم يكن واحدًا قط.
كتب التاريخ المدرسي تذكرنا كثيرًا بأن هذا الفرعون أو ذاك كان ناجحًا وقويًا، لأنه قام بحملات موفقة لتأديب بدو الشرق في سيناء وبدو الغرب عند الحدود مع ليبيا وإخضاع شعب النوبة في الجنوب. ويبدو أن لهذه السياسات امتدادات معاصرة بأشكال مختلفة، ولكن تظل شاهدة بشكل عام على أن هذا الشعب المعاصر لم يكن موحدًا إلا في الأغاني وفي أوهام محبي الفاشية بمختلف أنواعها.
تبدأ الفاشية من الاعتقاد بأننا موحدون - يا مصطفى - وتنتهي بأن كل صراع سببه هؤلاء «الخارجون» عنا، لأننا موحدون بشكل لا يسمح بأي صراع ولا يقبل به.
وتبدأ الديمقراطية بالاعتراف بأننا مختلفون ومتعارضو المصالح ومتصارعون، من أول السلم الصاعد إلى أتوبيس أو لحظة فتح باب عربة مترو وصولًا إلى رؤيتنا لما يجب أن يُكتب في الدستور. وهذا هو «أم السؤال» الذي يجب أن نجيب عنه. ويبدو لي أن إجابته الديمقراطية تبدأ من عنوان أغنية علي الحجار القديمة الجميلة: «تجيش نعيش؟».
تبدأ الديمقراطية من رغبة الناس في الحياة أولًا، الرغبة في الديمقراطية بالنسبة لي أن ترغب في أن تتمتع لمجرد كونك إنسانًا بحريات وحقوق وكرامة وكأنك «حاكم»، ثم أن تكون مستعدًا لقبول الطرق التي تجعلك تتمتع بكل ذلك في مساواة وتشارك مع كل واحد آخر ومع «الكل».
الديمقراطية ترجع إلى الخلف عندما يبدأ الحديث عن مجد الدين أو الطائفة أو العرق أو حتى مجد هذه البقعة الجغرافية من العالم التي تسمى «الوطن». أي مجد من أي نوع يقفز من أغنية أو قصيدة أو نعيق خبير أمني أو عسكري في توك شو ويبرر التوقف عن التساؤل عن مصير كرامة فرد أو مجموعة، هو من نوع الأمجاد التي انتهت بنا كلنا إلى هذا المصير.
ولكن ربما لن يفهم السلطوي الإسلامي أبدًا أين ذهبت شرعيته وربما لا يدقق فريق «تسلم الأيادي» كثيرًا أين هو أصلًا المجد الذي ينبثق عندما يستمع لصوت إيهاب توفيق يقول: «افتحوا لنا كتاب تاريخنا..»، ولكن عمومًا «اللي أخدته القرعة هاتاخده - غالبًا - أم الشعور».
شعوري دائمًا وأنا أشاهد فيديو كليب «تجيش نعيش» هو الابتسام المندهش عند ظهور داليا البحيري ورانيا يوسف في الأغنية كـ«موديلز» - ولا مؤاخذة - قبل أن تصبحا نجمتين لامعتين. ملابس المحجبات التي ظهرتا بها في الأغنية مقارنة بالملابس المعتادة الآن في أي فيديو كليب محافظ تقول إنه «لا عودة إلى الوراء»، ليس لأن أزياء معينة هي «متقدمة» وأخرى «رجعية»، ولكن لأنه مع تقدم الزمن وعوامل أخرى يصبح من الصعب السيطرة على الأشياء والناس، وذلك يجعل شعوري بشكل عام أفضل، وإن كنت تعتقد أن اتجاه السياسة هو إحكام السيطرة على الناس فنحن بالتأكيد لن نتمكن من الحياة معًا إلا في توتر.
لا أنكر أني توترت قليلًا عندما أصرت صديقة أن تزيح الشال عن كتفيها، وهي تمر بسيارتها على مسيرة مؤيدي الإمام الغائب محمد مرسي، لتريهم فستانها عاري الكتفين وهي تخرج ذراعها من السيارة وتشير إليهم بإبهامها لأسفل، علامة الاستياء.
كانت متحمسة وهي تعبر لهم فيما يبدو أنها تمارس حريتها الشخصية رغمًا عن أنوفهم وأنها سعيدة لانهيار سلطتهم، رغم أنها من دقائق كانت تحدثني عن ضرورة ألا تمر«مذبحة رابعة» دون حساب.
ولا أنكر أيضًا أني توترت عندما سمعت خبر تعرض صديقتي الأخرى، المتعاطفة قليلا مع «المشروع الإسلامي»، لاعتداء ما، قبل أو بعد 30 يونيو، من سافل قام بجذب غطاء رأسها السابغ الذي جعله يعتبرها «إخوان». ولا أنكر أني حزنت قبل ذلك، لأنها حذفتني من قائمة أصدقائها على فيس بوك، لأنها لم تستطع أن تفهم الفرق بين شراستي أحيانًا في إبداء العداء للسلطويين الإسلاميين ورغبتي في كسر ذراع مشروعهم الممتدة تجاه حريتي وحقوقي، وبين انحطاط اليد السافلة الممتدة بالعكس لتستهين بكرامة من اشتبه أنها «إخوان» أو متعاطفة معهم.
انفعلت على صديق متعاطف معهم دوّن خاطرة له وهو عائد من مسجد قبل 30 يونيو قائلاً إنه لا يؤيد سلطة الإخوان، ولكنه يخشى على دينه من بعد زوال سلطتهم!
هذه الدعاية هي «دعاية حرب» روّجتها تيارات السلطوية الإسلامية وقسم من جمهورها لينتهوا جميعًا إلى معادلة: «سلطتنا أو لا شيء». وهم الآن بسبب هذه الدعاية الحمقاء يتقدمون بقوة في طريق اللاشيء.
وقد نكون جميعًا في طريق اللاشيء إن أصر فريق «تسلم الأيادي» على تبني نفس المعادلة: «القضاء على العدو قضاءً تامًا وإلا ضاع كل شيء».
لكن كما تفهمت الأغنية الغاضبة أتفهم أيضًا هذه المشاعر الحربية الغاضبة التي تريد نصرًا حاسمًا وتريد كل شيء، لأن الإنسان في الأصل حيوان. لا يمكن إنكار ذلك، ومهما ارتدينا من «مسوح أخلاقية» يظل للإنسان غرائز، ليست كريهة كلها، تذكره بأنه أصلًا حيوان.
وفي الحرب تنفجر غرائز العدوان والقتال وحب البقاء والأنانية. وفي وقت الحرب يتعلم الناس أكثر من أي وقت مضى أن استمرار حياتهم معًا يقتضي أن يبتعدوا قليلًا عن عالم الحيوان ويكونوا شيئًا آخر أطلق عليه الناس «إنسانية»، ثم اعتقدوا أنها إحدى خصائصهم التي يولدون بها، ونسوا أنهم مازالوا يطمحون إليها، وأن الطريق إليها شاق وطويل، ويجب أن يبذلوا جهدًا وتفكيرًا مخلصًا في ذلك، بعيدًا عن «الأمجاد» التي ذهبت بهم إلى الحرب دائمًا.
الأمر ليس هينًا ولا بسيطًا. «تجيش نعيش؟» رغبة بسيطة ولكن الطريق إليها صافيًا دون تعرجات لم يكتمل حتى الآن، واحتجنا لتاريخ من التفكير السياسي والحقوقي والقانوني والأخلاقي والاجتماعي لكي يكابد «الناس» طريق الوصول إلى «إنسانية» أن يتدبروا أمور حياتهم معًا دون حرب، ومازالوا يتعثرون. طبعًا هناك من يتصور أن الحلول كلها موجودة في بلورة سحرية أو في القرآن أو الإنجيل أو في شروحات العقيدة الماركسية أو في جمال طلة ناصر. وفي الواقع يكون هؤلاء من قُطاع الطريق ومن السائرين عكس اتجاهه رغم كل النوايا الحسنة التي لا تمنع أن تتفاقم الصراعات إلى حروب.
ولكن لاشيء مثل أن نعيش التجربة يا علي، ولا عيش ولا حرية ولا عدالة اجتماعية إن لم نرد أن نخرج منها بمحاولة أن نعيش معًا. وبعدما نُلقّن الذين يريدون أن يجعلونا كومبارس في أي مشروع نحو أي مجد درسًا قاسيًا، علينا أن نتعلم منه نحن أيضًا. ومهما كان أحد الشعبين «غلطان وكمان بيبوّق» يمكن أن يكون الشعب الآخر «هو الكبير» ويفكر في أننا في النهاية «سنعيش معًا» ويجب أن نحذر أن يكون «الدرس قاتلاً».
كتب علينا ذلك سواء أحببناه أو كان كرهًا لنا، سواء كنا «إحنا شعب وإنتوا شعب» أو إننا ألف شعب وشعب، لا شعب سيرحل من هنا، وما يتبقى من رغبات الحرب هو الجثث والمرارة ورغبات الثأر ثم استمرار الحرب. ويبدو أننا «لسه ما شبعناش .. ولسه في كمالة» كما قلت في أغنية أخرى قديمة جميلة يا علي.