فى صباح جمعة شتوىّ من العام 2006 حملتُ منفردا جثمان طفلتى «فاطمة الزهراء» من مستشفى بالدقى حتى مدفن جدها لأمها فى السيدة عائشة، لم تكن تلك أولى تجاربى مع الموت الذى يعضّ القلب، لكنها كانت أول مواجهة مباشرة مع ساكنى القبور. على بُعد خطوات من القبر الذى ستنام فيه طفلتى كانت غرفة الحفَّار، تقدم منِّى معزيا بآليّة ثم بدأ عمله، كان وسيمًا يرتدى جلبابا ناصع البياض.
عندما هبط إلى جوف القبر طلب منِّى تسليمه «الأمانة» عجزتُ عن حمل ابنتى إليه، رفع صوته مناديا زوجته، جاءت الزوجة، كانت نسخة من بطلات خيرى شلبى، بلطية تسبح فى جلباب بلدى فضفاض لا يستطيع إخفاء علامات أنوثتها، عملا معًا كجرّاح ومساعدته، عندما رأت الزوجة ما أنا عليه، طاب لها أن تخفف عنى بطريقتها الخاصة، جاءت بماء وغسلت وجهها ويديها وكذا فعل زوجها، ثم جاءت بشاى لنا جميعا، ثم نظرتْ مبتسمة إلى زوجها وقالت: «قل للأستاذ». قالت جملتها ثم انصرفت ضاحكة. غمغم الزوج بخجل غريب على هيئته، ثم قال: «دى ولية وشّها مكشوف، عايزانى أقولك يعنى إن ليلة زى ليلتنا إمبارح تخليك تخلف عشر صبيان مش بت واحدة، عوضك على ربنا يا باشا».
هل أبالغ لو قلت إن بؤس هذا المشهد جعل حزنى على طفلتى تافها رخيصا بلا معنى؟
هل رضىَ هؤلاء حقًّا عن حياتهم حتى إن الزوجة تشاكس زوجها أمامى بذكرى ليلة البارحة؟ هل غسلنا نحن أيدينا منهم؟ عن نفسى أعترف: «لم أزر قبر طفلتى قط». كم قلبًا سأحتاج إليه لكى أتحمل مضغ بؤس المقابر وابتلاعه؟
كلنا نخادع قلوبنا ونروِّج لخرافة تزعم أن هؤلاء قد رضوا عن حياتهم وأن حياتهم قد رضيت بهم.
يهاجمنى مشهد المقابر بكل تفاصيله كأنه قد حدث قبل ساعة، وأنا أقرأ بيان حكومة حازم الببلاوى الذى به سينجو ساكنو المقابر والسطوح والعشوائيات والـ... من بؤس مساكنهم. يقول الظالمون فى بيانهم: «فى إطار خطة الدولة لتحقيق العدالة الاجتماعية (لاحظ العدالة الاجتماعية) تعلن وزارة الإسكان عن فتح باب الحجز لعدد 6000 وحدة سكنية بمساحة 42 مترا، للإيجار بمدينة 6 أكتوبر بنظام القرعة العلنية للعاملين أو المقيمين بالقاهرة الكبرى».
يوضح البيان شروط الحصول على الشقة الحلم فيقول: «سيتم عمل بحث اجتماعى على المتقدمين من خلال وزارة التضامن الاجتماعى». نعلم جميعا أن هذا البحث هو اسم التدليل المصرى لشهادة الفقر.
ثم يؤكد البيان: «إن مقدَّم الحجز 1100جنيه والقيمة الإيجارية 125 جنيها فى الشهر، بزيادة 7% سنويا ومدة الإيجار 7 سنوات قابلة للتجديد طبقا لما يسفر عنه البحث الاجتماعى الذى يتم فى حينه».
انتهى البيان الذى يتستر خلف الشعار الأعظم لثورتنا «العدالة الاجتماعية» ليقرر أن 6 آلاف شقة هى كل خطة الحكومة فى تخفيف بؤس الفقراء وساكنى المقابر والعشوائيات والعلب الصفيحية!
هذا بيان مجرم يتحدث عن العدالة الاجتماعية ثم يتيح شقة مؤجرة لمدة سبع سنوات فقط بضمان شهادة فقر، كل مساحة تلك الشقة التى يدللونها باسم الوحدة السكنية 42 مترا فقط لا غير، يقينًا ستصبح المساحة 38 مترا بعد خصم المنافع!
نقرّ ونعترف أن حكومة الببلاوى ورثت كل هذا البؤس، ولكن نقرّ ونعترف أيضا أنها تواصل مسلسل الأكاذيب ذاته، وأنها لا تنوى مجرد نية حل أى مشكلة من جذورها، هذه حكومة تواصل مسلسل المسكنات، وليتها كانت مسكنات فاعلة، هل سألت حكومة الببلاوى قلبها فأفتاها مطمئنا بأن نصيب الفقراء من أرض وطنهم يبلغ 42 مترا فقط لا غير؟ كيف استطاعت هذه الحكومة مواصلة مسخ الناس حتى إن أحدا لم يعلق على هذا البيان المجرم؟ بل قرأت ترويجا له بوصفه الحل السحرى لكارثة السكن فى مصر!
يا أيها المصريون استفتوا قلوبكم، أليست المقابر أوسع وأرحب؟