عندما رحل عمر سليمان قالوا رحيل الصندوق الأسود، حيث إن لديه العديد من الأسرار التى لم يُفصح عنها وملفات متشابكة عن صفقاته مع الإخوان ومخاطر سيناريو التوريث التى كان عمر سليمان مُلمًّا بها واقترابه من دائرة صُنع القرار يجعله شريكا فيها ولو بالصمت.
وهو ما تكرر مؤخرا مع أسامة الباز، إذ وصفوه أيضا بالصندوق الأسود، والذى يمتد ما يحتويه من أسرار إلى أخريات زمن عبد الناصر مرورا بزمن حسنى وصولا إلى زمن جمال وهى السنوات الست الأخيرة التى عاشتها مصر تحت وطأة كابوس تمكين الوريث. لو تابعت الحديث الذى نشرته «اليوم السابع» لحسنى مبارك -ولن أدخل هنا فى الجدل القائم حول مدى قانونية ومشروعية ومهنية وأخلاقية هذا النشر- للاحظت أن المؤكد أن ما كل ما ذكره مبارك كان على سبيل الفضفضة وأن جزءا كبيرا مما قاله هو أيضا مكانه الصندوق الأسود، صحيح أن بعضه يصب لصالحه ولكن الصحيح أيضا أن التسجيل كشف.. كيف أن من كان يحكمنا 30 عاما كان كأنه يدير طابونة.
هل ليس لدى زكريا عزمى وصفوت الشريف وفتحى سرور وحبيب العادلى وأحمد عز وأنس الفقى وسوزان وجمال وعلاء وغيرهم الكثير مما يمكن أن يقلب البلد رأسا على عقب.. لا أنسى ملامح صفوت الشريف عندما كان صديقى الكاتب الصحفى الكبير الراحل مجدى مهنا يسأله فى برنامجه «فى الممنوع» قبل نحو تسع سنوات، هل تكتب مذكراتك؟ نفى تماما إقدامه على تلك الخطوة، بل كان حريصا على أن يبعث رسالة يؤكد فيها أنه لا يحتفظ بأى أشرطة أو وثائق، كان يبدو فى هذا الحوار أن رجل المخابرات يريد أن يطمئن الجميع أنه سيرحل وسره وصندوقه معه، حتى المذكرات الفنية فى العادة تخلو من الحقيقة تكتشف أنهم كثيرا ما يجملون الوقائع أو يخترعون كذبة ليصدقوها، بل أحيانا يؤخرون كشف الحقيقة، مثلا كمال الدين حسين أحد رجال ثورة 52 وكان وزيرا للتربية والتعليم فى بداية الثورة، روى لى الفنان الكبير كمال الشناوى أن «حسين» كان طالبا مشاغبا عندما كان كمال الشناوى يعمل أستاذا لمادة الرسم وكان الوزير الأسبق زعيم المشاغبين فى الفصل تخيلوا المفارقة أن هذا المشاغب الأول يصبح المسؤول الأول عن التربية والتعليم.
لم يروِ كمال الشناوى هذه الحقيقة إلا بعد أن رحل كمال الدين حسين عن الحياة، مثلا لو عدت إلى مذكرات عبد الحليم التى سجلها بصوته وكان يحكى فيها عن سر مجيئه للقاهرة من قرية الحلوات بالشرقية، فقال إن محمد عبد الوهاب كان قد سافر إلى القرية ليحيى حفلا لأحد الأثرياء، بينما عبد الحليم أراد أن يراه فصعد على سطح أحد المنازل واختل توازنه وسقط وكسرت ذراعه فذهب إلى القاهرة حتى يتولى شقيقه الكبير إسماعيل شبانة رعايته، وهى كما ترى حكاية شجية وتلقى ظلالا مؤثرة وإيجابية على التركيبة الشخصية لعبد الحليم حافظ، إلا أنها ليست هى الحقيقة، حيث إن ما ذكره أحمد فؤاد نجم فى مذكراته وهو أن عبد الحليم سقط من السرير عن طريق الخطأ وهو فى الملجأ فانكسرت ذراعه فذهب إلى القاهرة لم يكن عبد الحليم يذكر أبدا فى حياته أنه عاش عدة سنوات فى الملجأ.
الحقيقة مثلا عن حياة عبد الوهاب لن تجدها فى الحكايات التى رواها لسعد الدين وهبة فى برنامجه «النهر الخالد» التى سجلها معه قبل أكثر من 30 عاما، ولكن ستجد جزءا منها فى التسجيلات التى رواها عبد الوهاب على سبيل الفضفضة لكل من المخرج حسين كمال والكاتب الصحفى مفيد فوزى والمؤلف سمير عبد العظيم لكى يعدوا حياته فى مسلسل، وبالطبع لم يظهر المسلسل ولكن الراحل مجدى العمروسى نشرها فى كتاب، مما أغضب الورثة.. حتى ما رواه مبارك فى أثناء الفضفضة ستلاحظ مثلا أنه كان حريصا على أن ينفى تماما سيناريو توريث الحكم لجمال رغم أنه على الأقل 90% من المصريين تدرك أنه لا يقول الحقيقة، بل إن سر غضب الجيش من مبارك وانحيازه للشعب فى ثورة 25 يناير كان المحرك إليه هو خوفهم أن يسلم الأب مفتاح مصر إلى جمال، لتظل الصناديق السوداء سوداء، وحتى إشعار آخر!!