هل يمكن الحفاظ على الأمن دون المساس بحقوق الإنسان؟ هذا سؤال يبدو أننا لم ننشغل حتى بمجرد طرحه على أنفسنا، وبالتالى لم نكلف أنفسنا البحث عن إجابة موضوعية ودقيقة عنه، رغم أهميته القصوى. وأظن أن الظروف التى تعيشها مصر حاليا تفرض علينا ليس فقط أن نهتم بطرح السؤال أو إعادة طرحه مجددا، ولكن أن نجتهد أيضا فى البحث عن الإجابة عنه بكل أمانة وموضوعية، فجيشنا الوطنى يخوض الآن حربا شرسة ضد جماعات إرهابية استوطنت سيناء، وأجهزة الأمن المصرية المختلفة تواجه فى بقية أنحاء الجمهورية تحديات وأعمالا تخريبية واسعة النطاق، تضعف من شعور الإنسان والمواطن العادى بالأمن، وتجعله غير مطمئن على حياته وممتلكاته، وربما تجعله مهيأ نفسيا لتقبل أى إجراءات استثنائية تطالب بها الحكومة أو تقوم باتخاذها فعلا لاستعادة الأمن والانضباط، مثل حظر التجول، إو إعلان حالة الطوارئ، أو فرض الأحكام العرفية.. إلخ.
هناك اعتقاد شائع يرى وجود تناقض طبيعى وحتمى بين الإجراءات المطلوبة لحماية أمن الوطن والمواطن، والضمانات المطلوبة لكفالة احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية الفردية والجماعية، كما يرى أن أى إجراءات تتخذ لحماية أمن الوطن والمواطن لابد أن تشكل بالضرورة قيدا على هذه الحقوق والحريات، وتحد من نطاق- أو تعوق- القدرة على التمتع بها. وعندما يجد المواطن نفسه فى موقف يتعين عليه فيه أن يختار أو يفاضل بين إجراءات تكفل له قدرا أكبر من الأمن والأمان وأخرى تتيح له هامشا أوسع من الحريات والحقوق الفردية والجماعية، وبما أن الإحساس بالأمن والأمان يعد شرطا لازما لتمكين الإنسان من التمتع بحقوقه، فمن الطبيعى أن تكون اعتبارات الأمن أولية على ما عداها.
غير أن افتعال التناقض بين كفالة الأمن، واحترام حقوق الإنسان، وطرحهما فى صورة إما هذه أو تلك، يبدو لى أمرا مغرضا إلى حد كبير، وربما يكون ناجما عن خلط متعمد بين «أمن النظام» و«أمن المجتمع»، والتعامل مع المصطلحين وكأنهما وجهان لعملة واحدة. وتلك حيلة تلجأ إليها عادة جميع أنواع النظم الاستبدادية، لتبرير تسلطها، وللتغطية على فساد نخبتها الحاكمة، فليس هناك مواطن صالح يمكنه أن يرفض أى إجراءات تهدف فعلا إلى تحقيق أمنه الشخصى أو أمن الوطن ككل، مهما كانت استثنائية ومقيدة للحريات، لأنه لا يمكن لأى مواطن أن يتمتع بأى حق من حقوقه الفردية أو الجماعية، إذا فقد أمنه الشخصى أو تعرض الوطن ككل لمحنة كبرى. لكن عندما تكون الإجراءات الاستثنائية التى يلجأ النظام الحاكم إلى فرضها موجهة فقط لتصفية خصومه السياسيين أو للتمكين لفريق أو حزب سياسى فى مواجهة فريق أو حزب آخر، فلا يمكن اعتبار مثل هذه الإجراءات محققة لأمن الوطن أو المواطن بأى حال من الأحوال، بل ربما تكون، على العكس، خطرا كبيرا عليهما، خصوصا على المدى الطويل.
تجدر الإشارة إلى أنه نادرا ما تلجأ النظم الديمقراطية إلى فرض قوانين أو إجراءات استثنائية واسعة النطاق. صحيح أن الإدارة الأمريكية لجأت فى عهد بوش الابن، وبعد وقوع أحداث سبتمبر، إلى اتخاذ بعض الإجراءات غير المعتادة، لإحكام الرقابة على المسافرين أو على الاتصالات والمراسلات الشخصية، بل قامت بإلقاء القبض على أشخاص، غير مرغوب فيهم، وترحيلهم، والسعى لحجزهم فى معتقلات تقع خارج الأراضى الأمريكية، لكنها لم تذهب إلى حد إعلان حالة الطوارئ مثلا أو فرض حظر التجول. كذلك الحال بالنسبة للنظم الحاكمة فى كل من إسبانيا وفى المملكة المتحدة، عندما تعرض البلدان لأعمال إرهابية واسعة النطاق.
لا أشعر بالارتياح تجاه السهولة التى تفرض بها أو تمد الإجراءات الاستثنائية فى بلادنا، ولست واثقا من أن هذه الإجراءات تستهدف حقا أمن الوطن والمواطن فقط. وفى تقديرى أن التمادى فيها، والإفراط فى اللجوء إليها، وتوسيع نطاقها باطراد تنطوى على نوع من «الاستسهال» الذى قد يدفع ببقية أجهزة الدولة نحو التراخى، وعدم القيام بوظائفها وواجباتها على الوجه الأكمل، كما قد يدفع بأجهزة الأمن إلى تجاوز سلطاتها وصلاحياتها، والتغاضى عن أخطائها، فمن المعروف أنه حتى فى حالات الطوارئ لا يجوز إلقاء القبض على أبرياء، أو احتجاز مواطنين فى أماكن غير معلومة، أو إجراء تحقيقات فى غير حضور محاميهم، ناهيك عن تعذيبهم، وتلك ممارسات تحدث بكثرة فى هذه الأيام.
نعم لكل إجراء يحفظ للمواطن وللوطن أمنهما فعلا، لكن لا وألف لا لكل إجراء ينتهك حقوق الإنسان، فمتى ندرك أن انتهاكات حقوق الإنسان هى الخطر الأكبر على أمن المجتمع؟