أصابنى الله مرة بمحنة فخرجت منها بمنحة، وعندما أصابنى بالثانية تشوقت لمنحتها وشدنى الشوق إلى إيلام الجسد من أجل أن ترتقى الروح، أما عن الأولى فقد كان ذلك منذ أكثر من عشر سنوات مرت كلمح بالبصر، ومع ذلك ما فتئ القلب يستعيد ذكراها، وسبحان الله الذى يغيّر ولا يتغير، ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حالِ، كنت أخطو خطواتى رافع الرأس واثقا مترفعا داخل إحدى المحاكم حيث كنت أمارس مهنتى، وعلى حين فجأة لم أشعر بقدمى! وكأنها زالت من مكانها، ثم إذا بى أسمع صوت فرقعة طفيفة صادرة من ركبتى اليمنى، ومن بعد ذلك اعترانى ألم رهيب لم تكن له سابقة فى حياتى فكان أن فقدت الوعى من وطأة الألم، وعندما استعدت وعيى وجدت أصدقاء المهنة وهم يبذلون ما وسعهم الجهد فى إفاقتى، ثم قاموا بحملى إلى المستشفى حيث مكثت ساعة أو بعض ساعة داخل أسطوانة أشعة الرنين المغناطيسى التى أشعرتنى وكأننى أدخل إلى قبر مظلم ـ خاصة بعد أن عصبوا عينى وصموا أذنى ـ ذلك القبر الذى سيكون حتما نهاية ذلك الإنسان الذى تشغله الدنيا بزينتها عن حقيقة هى أبعد ما تكون عن خاطره رغم أنها أقرب إليه من حبل الوريد، وبعد أن أجريت الأشعة أبدى الطبيب عجبه مما حدث وقال لى ( لديك قطع عجيب فى عضلة اسمها العضلة الرباعية وموضع هذه العضلة فوق الركبة مباشرة)، وفى غرفة العمليات استشعر فؤادى الموت واختلطت معانيه بحشاشات قلبى، فبعد ثانية أو أقل يدخل الواحد فى نوم التخدير الذى قد لا يقوم منه أبدا، وقد يذهب منه إلى عالم البرزخ، وانتهت الساعات الثلاث فى غرفة العمليات وعدت من جديد إلى دنيا الناس وقد أحاط الجبس من أخمص القدم إلى أعلى الركبة وظللت حبيس هذا الجبس ما يقرب من ستة أشهر حيث رافقتنى عصاى أتوكأ عليها، وظلت عصاى معى لا أجد لى مندوحة فى غيرها حتى أذن الله لى بشفاء من عنده، كانت هذه التجربة من أعظم التجارب التى مرت على حياتى وقد أطلقت عليها (تجربة الافتقاد) ولم يكن الافتقاد هنا افتقاد وفاء لأصدقاء وإخوة عرفتهم فى الله لم أرهم فى محنة المرض وقد كنت لهم وجاءً عندما أدار لهم الزمان ظهر المجن، فما أكثر من طرحنى من ذاكرة قلبه ولم يعدنى وقتئذ، ولكن الذين حملونى فى قلوبهم واحتملونى فى مرضى أكثر، ولم يكن الافتقاد هنا افتقاد دنيا ستفنى بزخرفها إن آجلا أو عاجلا، فلم يهب الله لى من زينة الدنيا ورزقها كما وهب لى فى هذه الأيام، وكأن الله سبحانه وتعالى يضع آية نصب عينى مفادها أن الرزق يأتى إلى العبد لا محالة، سواء كان فى صحة أو مرض، فى قوة أو فى ضعف، ولكن الافتقاد الذى أعنيه هو افتقاد السجود لله حينما عجزت عن وضع جبهتى على الأرض أثناء الصلاة، إذ مكثت عدة أشهر لا أصلى إلا قاعدا، افتقدت حينها تعفير وجهى فى الأرض لله رب العالمين فى موضع لا يكون إلا لله، حيث تكون العزة للعبد حين يُذَل لله العلى القدير، ما أروع تلك السجدة التى افتقدتها فى تلك الأيام الكالحة، وحينما حانت تلك اللحظة النورانية التى منّ الله علىَّ فيها بالسجود ووضعت جبهتى على الأرض ارتجف جسدى رجفة لم تحدث لى من قبل وارتعشت أناملى وهى تحاذى رأسى على الأرض وانهمرت دموعى تترى بلا حول منى ولا إرادة وقد احتوتنى لذة روحية لم تصادفها روحى قبلها قط.
وبعد سنوات كنت فى موضع خرجت فيه لله رب العالمين، لم أخرج لبشر أو لدنيا، له وحده كان خروجى وهو العليم ببواطن الأمور، فإذا ببعض عباد الله ـ يا لهف شفقتى عليهم ـ ممن يأتمرون بأوامر عبادٍ لله ينهالون على قدمى الأخرى بالضرب بالهراوات فقطعوا العضلة الرباعية أعلى الركبة، فأصبحت صاحب القدمين مقطوعة العضلات! وفى مستشفى آخر وتحت يد طبيب آخر أجريت عملية جراحية خرجت منها إلى آلام «الافتقاد» حيث افتقدت القدرة على تعفير وجهى لله وأنا ساجد، فقد تعطلت ركبتى تماما، إلا أننى آليت على نفسى مؤخرا أن أسجد لله متكئا على ركبة واحدة مهما كانت الآلام التى أجنيها، فكم للسجود من لذة لا يدركها كثير من الناس ومن كرامة لا يفهمها فريق من الناس ومن محبة لا يصل إليها كل الناس.
■ بعد المقال سألنى صديق من لجنة الخمسين الدستورية عن الجدل الدائر حول: أنكتب دستورا جديدا أم نعدل الدستور الإخوانى حتى ولو كان التعديل شاملا؟ أما عن رأيى الذى أضعه أمام لجنة الخمسين فهو أن الذى حدث فى 30/6 لم يكن احتجاجات شعبية ولكن ثورة كاملة، ومع قيامها كان لابد أن يسقط الدستور الإخوانى بمواده وأفكاره، فالثورات تحذف الواقع القديم، وتصنع واقعا جديدا، الواقع القديم كانت له مفاهيمه وأفكاره وأشخاصه، وإذ قامت الثورة سقط النظام بأكمله، وبسقوط النظام سقط الدستور المستمد من واقع حاولوا صناعته وتمرد عليه الشعب، وأصبح الواقع الجديد هو ثورة حذفت القديم. ومن الثورة تنبثق مفاهيم الدستور الجديد، فكان من الحرى أن تكون مفاهيم الثورة ومبادئها مُلهمة لقيم دستورية جديدة بحيث لا يقوم الدستور الجديد إلا على ما نادت به الثورة، وعلى ما لم يستلهمه الدستور الساقط من ثورة يناير.