هذا موضوع خطير يتعلق بإنقاذ منطقة أثرية كاملة نادرة من الضياع، باعتبارها درة فى عقد الهوية المصرية التى يتم مرمغتها فى الوحل إعمالا للمقولة الإخوانية الخائنة «طظ فى مصر»، وقد قررت أن ألقى عليه الضوء فى هذه الزاوية ليس لكى يهتم به وزير الآثار، فهو فى الواقع لا يهتم به مطلقا، بل وأثبت مرارا أن شعرة واحدة لديه لا تهتز لضياع جبانة البجوات النادرة تلك بأكملها. وهى مدينة الموتى التى بنيت فى الواحات الخارجة خلال العصرين الفرعونى والرومانى، والتى تعد أقدم نموذج للعمارة الطينية فى مصر.
إن موسما واحدا غزير الأمطار لَكفيل بانهيار هذه الجبانة وفقدانها إلى غير رجعة. هذا الموقع النادر العظيم وصفه الأثريون الأوروبيون المعاصرون بأنه أقدم وأهم من الفاتيكان ذاتها! حيث تعود أهميته للإنسانية إلى أنه واحد من أعرق الآثار المسيحية المبكرة فى العالم. يقول صديقى العزيز الأثرى المهندس محمود الطوخى، إن فرقة الترميم العاجل التابعة للمجلس الأعلى للآثار، التى كان يقودها متبرعا بأجره لصالح رعاية الآثار المصرية، قامت فى عامى 97 و98 بأعمال إنقاذ سريع لوقف تدهور وانهيار جدران وقباب وحدات البجوات التى يصل عددها إلى 265 وحدة على وجه التقريب. يقول المهندس محمود بحزن وتأثر بالغين: توجهت إلى الوزارة الحالية وقابلت الوزير رغبة منى فى استكمال أعمال إنقاذ جبانات ذلك الموقع النادر، فقابلنى على مضض، ورفض طلبى بدعوى عدم توفر ميزانية لهذا الغرض، فعرضت عليه بعدها التكفل بالإنفاق على الترميم متطوعا فتم رفض طلبى للمرة الثانية دون إبداء أى أسباب مقنعة! يكمل الأثرى محمود الطوخى حديثه قائلا إن هذه النوعية من الترميمات يستحيل أن يتصدى لها مقاول ممن يتم التعاقد معهم بمعرفة الوزارة، لأنها غير اعتيادية وغير مربحة، لأن المادة المستخدمة فى ترميم ذلك الأثر رخيصة، لأنها من الطين المتوفر بالموقع، وليست من الحجر أو الرخام، ثم يكمل حديثه قائلا بأسى إن هناك كنيسة طينية بالموقع تحكى الرسوم الموجودة على سقفها قصة خروج العبرانيين من مصر، كما تحكى أيضا قصة رحلة العائلة المقدسة فى بلادنا. الآن أريدكم أن تغمضوا أعينكم، وتتخيلوا معى أنكم تقفون أمام شجرة هائلة، تضرب بجذورها فى باطن الأرض، وتصنع بداخلها شبكة معقدة تغطى مساحة شاسعة فى أعماقها. لست أبالغ إن قلت لكم إن لكل جزء من مساحة الأرض التى تقف عليها تلك الشجرة الشامخة طبيعة خاصة لتربتها، تختلف فى معادنها وأملاحها ولونها، ودرجة رطوبتها. إن جذرا واحدا يتم اقتطاعه من هذه الشجرة يحرمها من عنصر غذائى لا يوفره لها غيره من الجذور. هذه الشجرة هى بلادك، وتلك الجذور هى مصادر تنوع ثقافتها عبر العصور. هل يمكن تفسير ما يحدث الآن بأن وزارة الآثار تستكمل المحاولات الفجة لقطع جذور الهوية المصرية كما روج لذلك السلفيون برعاية الإخوان؟ منذ أيام أشار الصديق العزيز بلال فضل إلى اختفاء بعض المعروضات من المتحف الإسلامى فأعلن الوزير فى مؤتمر صحفى أن كل شىء على ما يرام. أعلن ذلك رغم أن أرقام تلك القطع سبق وأن تقدم بها المهندس محمود الطوخى، والمحامى (المهندس) هانى الحلفاوى فى بلاغ رسمى للمحامى العام، يفيد أن فقدانها يعد جريمة كبرى، كما أن وجودها بالمخازن، إن صح ذلك الزعم، يعد جريمة هو الآخر لتضمينها فى كتالوج معروضات المتحف دون عرضها! الأمر الذى يثير شبهات لا يمكن السكوت عنها، تستدعى التحقيق، والجرد بمعرفة النيابة العامة لطمأنة الرأى العام.
فى الختام أعود إلى موضوع البجوات، وأخاطب الدُّمَى الصماء من البهوات الجالسين فى مكاتبهم الفاخرة المكيفة التى تكلفت الملايين من جيوب الفقراء: الأمر جد لا يحتمل الهزل. وجودكم فى أماكنكم تكليف لكم وليس تشريفا تتفاخرون به، أو تعتبرونه مجرد إضافة لكلمة وزير فى خانات المهنة فى بطاقاتكم، وكروتكم الشخصية، وصفحات سيرتكم الذاتية ليعينكم على جنى الأموال فى وظائف خليجية مستقبلية.
اتركوا أماكنكم لمن يقدر على القيام بمهامها على خير وجه إن كنتم لا تقدرون. هناك ثورة قامت لكى يعرف المسؤول أنه خادم للشعب. إن تقاعس عن القيام بمهامه عزلناه مهما أبى أن يتعفف ويترك مكانه طائعا. كلمة أخرى أوجهها لنيافة البابا تواضروس: هل يرضيكم أن يقال إن البجوات هدمت فى عهدكم؟ ليتكم تتكرمون بالتبرع من ميزانية الكنيسة بمبلغ زهيد، حسب تقدير المهندس الطوخى، يرفع الحرج عن ميزانية وزارة الآثار التى يزعمون أنها لا تقدر على تدبير بضعة آلاف تكفى لإنقاذ البجوات، ينفق البهوات، وأولهم وزيرهم، أضعاف أضعافها على ديكورات مكاتبهم الفاخرة. متى يتم فى بلادنا تكليف من يفهم، ويهتم، ويقدر، وينأى بنفسه عن تشريف يتباهى به من لا يستحق؟