كنتُ أتوقع أن يكتنف الأمور بعض التعقيد، لكننى لم أتصور قط أن تصل الأمور إلى هذا الحد!.
ماتت زوجة صديقى فى الخارج. سقطت من هاوية الجبل فى رحلة سويسرا. نزل الخبر علينا كالصاعقة. ورغم هيبة الموت فإننى لم أستطع إلا أن أفكر أنه الحل الوحيد للمشكلة المعقدة. وكنتُ واثقاً بأن «رانيا» تفكر بنفس الطريقة.
كنتُ أتوقع حزناً شديداً من صديقى رغم أنه لم يحبها يوماً. كالعادة لم يخب ظنى فى فروسيته ومروءة خصاله. لكن الحزن كان أشد مما ينبغى لرجل لم يحب زوجته يوماً. انقلب صديقى رأساً على عقب. والأغرب أنه لم يعد يرد على اتصالات رانيا، وكأنهما لم يتحابا يوماً.
تسللت «رانيا» إلى قلب صديقى بنعومة بالغة. رقتها، أنوثتها، نظراتها المغرمة، تعليقاتها الذكية. لم تكن توأم الروح، ولكنها النصف الذى يحتاجه لكى يصبح واحداً صحيحاً مكتملاً. لكن العقبة الكؤود كانت قائمة. زوجته التى كانت تحبه إلى حد المرض. ولم يكن صديقى بالرجل الذى تتركه زوجته لغيرها بسهولة. كريم النفس، وسيم الخلقة، حقق نجاحا مهنيا يكفل رغد العيش. أضف إلى ذلك أنها كانت مريضة بالاكتئاب. وكان يعلم أنها قمينة بالانتحار لو طلّقها أو تزوج غيرها.
كانت رانيا فى حيرة، ولم تكن تفهم لماذا يبتعد عنها رغم الظروف المواتية!. بالطبع كانت الأمور تحتاج وقتا ملائما. لكن دخوله فى دائرة الحزن الجسيم لم تكن مبررة. التقيتُ به، وبدا واضحا أنه يتجنب الحديث المحرج. واعتصر قلبى حين شاهدت نظرة الفأر المُحَاصر فى عينيه، ولكنى كنتُ مصمما أن أفهم، وأساعد.
كان الكلام يتعثر فى شفتيه وكأنه يقتطع من قلبه بسكين. ذهبت الرحلة السياحية إلى الجبال الخضراء الساحرة بسويسرا. وامتنعتْ زوجته عن الصعود لهلعها المزمن من الأماكن المرتفعة، لكنها تراجعت ورافقته فى آخر لحظة! كان الفوج السياحى يتحرك فى غير انتظام. وأشرفا معا على هوة خضراء يتمثل فيها الجمال الآسر. قال صديقى إنه الآن لا يذكر ما حدث بالضبط! ولكنه تمنى للحظة لو كانت رانيا معه. أو على الأقل لو كان وحده! وربما تمنى فى داخله لو لم تكن زوجته موجودة! وراح يتذكر كمّ التعاسة التى تجرعها منذ أن دخلت حياته! الآن يتعجب لماذا تزوجها! طاردته بمشاعرها الجارفة، فاستجاب لها فى لحظة شفقة طارئة.
وتعكرت نظراته لوهلة. فى هذه اللحظة بالذات رفعت عينيها إلى عينيه وقرأته. عرفتْ حقيقة مشاعره التى اجتهد أن يخفيها. بعدها لا يدرى ما حدث. هل شعرتْ باليأس المطبق؟ هل أطلتْ من عينيها نظرة خوف منه؟ هل انزلقت قدماها كما يؤكد الشهود، أم هى التى تعمدتْ أن تسقط؟!
قال والدموع تتساقط من عينيه إنه أحس بغريزته ستسقط. مرة أخرى تختلط الأمور لديه: هل تردد فى إنقاذها لحظة واحدة كانت كفيلة أن تسقط، أم هل مد يده بإخلاص ليمسكها، أم أنه هو الذى دفعها لتسقط؟! كثرة التفكير والليالى المسهدة واسترجاع المشهد مرارا وتكرارا جعله فى النهاية عاجزا عن الحسم. لا يعرف ما الذى حدث بالفعل! لا يدرى أين الحقيقة فى كل ذلك!.
الذى يعرفه بيقين أن فجوة صارت بينه وبين رانيا! فجوة سحيقة لا يستطيع أن يتجاوزها، وشبح زوجته الصارخة، المنحدرة فى الهوة العميقة، تحاول أن تمسك بالصخور المتفتتة، تقف بينهما حاجزاً للأبد!.