أجمل وأصدق تعبير استمعت إليه عن موسيقى بليغ حمدى، هو ما قاله زميله كمال الطويل «إننا كموسيقيين كنا كثيرا ما نتوقف مشدوهين أمام ما يبدعه، نسأل كيف فكر فى هذه الجملة اللحنية كيف جاءه هذا الخاطر المجنون». الشاعر مأمون الشناوى قال لى «كل من لحّن لأم كلثوم بعد العمالقة القصبجى وزكريا والسنباطى لم يفعل أكثر من أنه أعاد فقط ترتيب قصر أم كلثوم، أما بليغ فقد قام ببناء قصر جديد لصوتها».
بليغ لم يكن مجرد مبدع استثنائى ولكن فى شخصيته سر وسحر خاص، ولهذا صارت حياته ملهمة للفنانين وقُدم عنه حتى الآن ثلاثة أفلام تسجيلية، وتم إعداد مسلسل «مداح القمر»، كما سبق أن استوحى المخرج السورى عبد اللطيف عبد الحميد حياة بليغ بعد رحيله بعام واحد فى فيلم «نسيم الروح»، لم يكن فيلما عن سيرة حياته، ولكن أروع ما فيه أنه قدم البطل الذى لعب دوره الفنان السورى بسام كوسا عاشقا لبليغ وأمنيته أن يزور القاهرة ليراه فسار فى جنازته، كل أعماق بليغ الوجدانية كثفها دراميا «نسيم الروح».
مرّ أول من أمس 20 عاما على رحيل هذا العملاق، كان بليغ حمدى دافئا ومعطاء وفى نفس الوقت بوهيميًّا لا يرتبط بموعد واحد ولا بامرأة واحدة، أغضب مرة أم كلثوم عندما لم يأت فى أثناء بروفة أغنية «بعيد عنك»، وأقسمت أنها لن تتعاون معه مجددا، ورغم ذلك سرعان ما سامحته وكانت تتصل به وتدعوه إلى فيلتها وتقول له«تعالى يا واد وهات العود معاك»، وكان مكتبه على بعد خطوات من فيلتها، سجلت له بعدها «الحب كله» و«حكم علينا الهوى».
ليلة زواجه من وردة اختلط عليه الأمر وسافر إلى بيروت ناسيا أنه عريس، وهناك عروس ومأذون ومعازيم ينتظرونه فى القاهرة. فى مراحل من عمره أراد أن يتزوج من سامية جمال، وقال لى شقيقه الراحل مرسى سعد الدين إنه هو الذى تقدم بالطلب واصطحبه إلى شقتها طبقا للأصول فهو شقيقه الكبير، ولكنه لم يدر ما الذى أعاق بعدها زواجه منها، كما أنه تعلق بسميرة سعيد، وكان على وشك الارتباط بها. وفى شبابه أحب ابنة الموسيقار عبد الوهاب، ولكن عبد الوهاب أوقف الزواج برغم تهديد ابنته بالانتحار.
هو أغزر وأغنى ملحن عرفته الموسيقى الشرقية، وأقصد هنا الثراء الفنى، فلم يكن لديه أى نوع من القدرة على الضبط والربط المادى، لا يدرى كم دخل وكم خرج من جيبه. وصفه الشاعر الكبير كامل الشناوى قائلا «إنه أمل مصر فى الموسيقى»، وهو التعبير الذى استعاره بعدها عبد الحليم قبل أن تحدث بينهما جفوة ويسحبه منه. عطاء بليغ أكد جدارته بتلك الشهادة يكفى أننا لا نزال نلمح بصماته على عديد من الجمل الموسيقية التى يقدمها القسط الأكبر من ملحنى هذه الأيام.
فى مذكراته الخاصة معى قال لى كمال الطويل عن مشروع لم يكتمل مع بليغ ووردة، حيث إنه من فرط حب بليغ لكمال اقترح عليه أن يكتب أغنية من تأليفه، حيث كان بليغ يكتب أغنيات تحت اسم مستعار «ابن النيل»، وأن يلحنها الطويل وتغنيها وردة، وبدأ كمال فى تلحين أغنية «الأيام اللى جايه» فى منزل بليغ ولكن الطويل لم يشأ -على حد قوله- أن يدخل بين بليغ ووردة وقال لى ضاحكا بليغ هو الأولى بالتلحين لها!!
الواقعة التى هزمت بليغ هى انتحار المغربية الحسناء سميرة مليان وهى عارية من شرفة منزله بالدور الثالث، أسهبت الصحافة فى تناول تلك القضية وأدين وقتها بالسجن لمدة عام، واضطر إلى الهرب خارج مصر عام 1986، برأته محكمة النقض فى مطلع التسعينيات، واستقبله فى المطار كل رموز ونجوم مصر، عاد جسدا ولكن روحه انكسرت.
ألحان بليغ هى النسيم الذى تنتظره أرواحنا فى عز هجير الموسيقى الزاعقة التى تنهال علينا أينما ولّينا أسماعنا، لو حاولت أن تتوقف أمام أغنيات لوجدت «تخونوه» بكل هذا الشجن التى سجل فيها بصمة البداية بصوت عبد الحليم، ثم «بعيد عنك» أصدق لحن قدمه لأم كلثوم، ونستعيد معا هذا المقطع «كنت بشتاقلك وأنا وانت هنا بينى وبينك خطوتين»، وجاءت الدفقة الأخيرة مع صوت وردة «بودعك وبودع الدنيا معك»، ليودعنا بينما موسيقاه لم ولن تودعنا!!