أظنك تعرف المقصود بهذه «الخميرة» الخبيثة التى فى العنوان أعلاه.. إنها طبعًا، جماعة أو عصابة الشر الفاشية السرية التى نشلت فى وضح النهار ربيع شعوب أمتنا العربية وحوّلت انتفاضاتها العارمة من أجل الانعتاق والخلاص من نظم حكم ديكتاتورية فاسدة إلى كوارث وطنية رهيبة تحمل فى طياتها مخاطر وجودية تهدّد كيانات أوطاننا ومؤسسات دولنا وتسحق بقسوة أمانى وأحلام الناس فى النهوض والتقدم والعيش بكرامة تحت مظلة العدل والحرية، مما جعل نسبة لا بأس بها منهم تندفع بمشاعر القنوط والإحباط إلى الإقرار بحقيقة جزئية ملخصها أن نظم الحكم القديمة المدحورة ربما كانت أقل شرًّا وأهون ضررًا وأضعف خطرًا من تلك العصابات التى حاولت وراثتها!!
هنا بالضبط تتجلى عظمة وتاريخية ثورة الشعب المصرى الأسطورية التى تفجّرت يوم 30 يونيو الماضى، ليس فقط لأن هذه الثورة قوّضت بقوة وحسم واقتدار مشروع عصابة الإخوان الإجرامى واجتثّته من جذوره وطهّرت الدولة والمجتمع المصريين من خمائره الخبيثة وسمومه المميتة، وإنما أيضًا لأنها أهدت شعوب أمة العرب (وربما عالمنا الإنسانى كله) هدية ثمينة ومزدوجة.. فإلى جوار تأثير قوة «نموذج الوعى» الثاقب والمرهف المشفوع بمقاومة نشطة وباسلة تتوجت بسرعة (بعد عام واحد) بضربة ثورية قاضية أنهت حكم العصابة إلى الأبد، فإن لهذه القوة جانبًا آخر قد يكون أكثر أهمية يتمثّل فى التداعيات والنتائج المادية لهذا السقوط المدوى وتلك الهزيمة الساحقة المبكرة للمشروع الفاشى الإخوانى فى بلد بحجم ووزن مصر، حيث التاريخ والجغرافيا تسبغان عليه أهمية استثنائية، بينما الخالق قد أفاض عليه بقدرات ضخمة ومؤهلات هائلة وضعته دائمًا فى موضع «المركز» الجاذب الذى تنشد إليه وتدور من حوله سائر أقطار الأمة.. فإذا ذهب يسارًا أو يمينًا ذهب أغلبهم معه، وإذا صعد يصعدون، ولو مال حاله وساءت أحواله، ضج الجميع بالشكوى من الضعف والوهن.
باختصار، لقد كانت مصر قاعدة الأساس لمشروع الطائفية والتأخر والخراب المستعجل الذى توهّمت العصابة الإخوانية وأسيادها فى واشنطن أن بمقدورهم فرضه وتعميمه على باقى الأمة، لكن الشعب المصرى أفسد عليهم خطتهم الشريرة وأفشلها وألقاها فى مزبلة التاريخ وتركهم يلعقون مرار الحسرة على ضياع غنيمة أو «سريقة» عظيمة ظنوها سقطت فى أياديهم فعلًا، ولعل هذا هو سر حقد الأشرار جميعًا (سواء كانوا قطعان المجرمين المحليين أو أسيادهم فى الغرب) على المصريين والرغبة الجامحة فى عقابهم والانتقام منهم، حتى لقد بلغ الأمر مستوى غير مسبوق من السعار والتوحش والجنان الرسمى الذى يجسد نفسه فى ارتكابات وعربدات وجرائم إرهابية يومية لا ينافس بشاعتها إلا سفالتها، لكنها كلها تكشف لكل صاحب وبصيرة روعة وأهمية وأسطورية إنجاز الشعب المصرى، وتفضح فى الآن نفسه نوع المأساة وحجم الكارثة الوجودية التى كانت ستحل بالعرب أجمعين لو لم يغرف هذا الشعب المتخصص فى صنع المعجزات من مخزون ثروته الحضارية الضخمة، ولم ينتفض ويتحرك بسرعة وفى الوقت المناسب، نازعًا من بدنه «خميرة» العفن والخراب.