أبريل 2004.
أمر بجوار منزل جدي في أسيوط، فأشاهد شعارات كتبها مجهول ليلة الأمس بخط مرتبك.
«ياللعار ياللعار.. باعو البصرة بكام دولار»، الشعار نفسه يتكرر على الجدران بطول الشارع.
أقف صامتاً أمام الشعار مأخوذًا برهبة الانكسار. يسألني أحد المارة وهو يضحك: «هيا بقرة إيه اللي باعوها؟»، أرد عليه باقتضاب بأن هذه الكلمة هي البصرة مش البقرة، يتحول وجهه من الضحك للعبوس في لحظة ويبتعد صامتاً دون كلمة.
لقد سقطت البصرة وسقطت بغداد.
(1)
عن الانكسار
لنحو ثلاثة أسابيع كانت الدعاية العراقية والقومية في مصر تحتفل بالصمود العظيم في جنوب العراق بمعارك ميناء أم قصر والبصرة، وتنسج أساطير عن هول معركة بغداد التي ستغرق الأمريكان في مستنقعها مهلكة الآلاف منهم.
الصحاف يعقد مؤتمرات يشتم فيها العلوج، يسأله صحفي عن شكل العراق في المستقبل فيؤكد أنه هو نفسه عراق الماضي تحت قيادة القائد صدام، التليفزيون العراقي يعرض صور الجنود الأمريكيين الأسرى، فلاح عجوز يسقط أباتشي ببندقية قديمة ويعلن أنه سيتزوج بالمكافأة التي نالها، التليفزيون العراقي يذيع وصايا سيدتين فجرن أنفسهن في معركة المطار، متطوعون عرب ممتلئون بالحماس، مظاهرات في كل مكان، الانتصار يقترب هتافات، أمل، نشوة ... ثم سقطت البصرة فجأة، وبعدها بأيام قليلة سقطت بغداد، والعراق كلها.
ما أقسى الانكسار بعد الأمل.
قامت ثورتنا وأتى الأمل.
بعد خطاب مبارك العاطفي أثناء الثورة، ووضوح انقسام الشعب على استكمال الثورة، كنت أقول لأصدقائي إنه يجب أن يتنحى مبارك فقط كي نحقق أي إنجاز الآن ولو نفسياً مهما كان المستقبل، فقط كي لا ينكسر جيلنا بعد الأمل مثل جيل نكسة 67 أو كالجيل الذي قام باعتصام التحرير 72 جيل «الكعكة الحجرية» التي كتب عنها أمل دنقل أو جيل «المبتسرون» كما كتبت أروى صالح.
بعد الثورة مباشرة بدا كل شيء ممكناً. سنعيد أموال نظام مبارك، وسينال كل فرد من الشعب نصيبه أو نستغلها في مشاريع تنموية ضخمة. لا عصا سحرية، لكن الشعب كله شعر بالتفاؤل ببداية نهاية الفقر والجوع والبطالة والقمع، «مافيش خوف تاني، مافيش ظلم تاني».
بعد 3 سنوات يخبو الحماس ويخفت صوت الأحلام، السماء تعود أبعد مما كانت، يختفي الحديث عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ويبقى الحديث عن حرب الإرهاب أو إسقاط الانقلاب!
ما أقسى الانكسار بعد الأمل.
(2)
عن الأصوات الخافتة
«سألتها أمي: وماذا لو مروا من جانبي النهر معاً واصطحبوا معهم المراكب؟ فارتبكت أم نونا وهي تقول بصوت حانق إنها لا تعرف، ولا أحد يعرف، ولا أحد في بيتها ليحرس البقرة».
هذه العبارة هي أكثر ما تأثرت به في رواية النبطي ليوسف زيدان، على لسان فتاة مصرية في عصر ما قبل الإسلام.. لا يمثل التحول التاريخي في موازين القوى العالمية بهزيمة الفرس أمام الروم وانسحابهم من مصر، أي أهمية لسكان ذلك الكفر الصغير المجهول، إلا احتمال مرور أحد الفريقين المهزوم أو المنتصر بهم، مما قد يجردهم من ممتلكاتهم البسيطة.. لا يهم ما يحدث في العالم كله، إلا إذا كان ذلك سيؤدي لفقد أم نونا لبقرتها المصدر الوحيد لإطعام أبنائها.
تدور عجلات الحروب ليعلو صوتها على صوت صرخات القتلى من كل الأطراف تحتها، «إحنا الشهدا في كل مدارها منهزمين أو منتصرين» كما غنى الشيخ إمام يوماً.
يقولون التدخل الأمريكي سيدمر سوريا ويقتل شعبها. هذه من أسخف العبارات الممكنة! فلترفضوا بسبب الأمن القومي أو الكرامة أو أي شيء آخر غير الدمار والموت.
3 سنوات من الحرب دمرت البلد، وخلفت 100 ألف قتيل، ومليوني لاجئ من أصل 23 مليونًا هم سكان سوريا، ولا تبدو أي نهاية للنزيف.
هذه الخسائر تفوق مجموع خسائر كل حروب العرب ضد إسرائيل، نكسة 67 بجلالة قدرها سقط فيها 15 ألف شهيد مصري فقط، وحرب 73 خسرت مصر بها 8500 شهيد.
ما الفارق عند أم نونا السورية لو كانت ستفقد بقرتها وحياتها هي وأبناؤها، على يد جندي أمريكي أو على يد جندي من جيش بشار؟ في كل الأحوال سيظل صوتها وهي تموت خافتاً غير مسموع، مجرد هامش تافه على المتن الذي تظهر به توازنات القوى الدولية.
بالتأكيد البصرة/ دمشق مهمة جدًا، وهناك أبطال مستعدون للتضحية بحياتهم لأجل ذرة تراب منها، لكن البقرة مهمة جدًا أيضاً، وهي لدى البعض لا تقل أهمية أبدًا عن البصرة ذاتها.
في مصر تعلو الأصوات الآن ضد الإرهاب أو الانقلاب، فتخفت الأصوات التي تشتكي من ارتفاع الأسعار أو البطالة والفقر والمرض.. ولكن إلى حين.
(3)
عن الانتهاك
الانتهاك، بمعنى الضعف والعجز هو ما أشعر به، عندما أجد أننا محاصرون بين قوى عملاقة تتلاعب بنا، وتضعنا بين خيارات لا نريدها كلها.
مصير سوريا تحدده اجتماعات دولية، وحتى توازنات انتخابية في أمريكا، ومصير مصر قد يحدده بضعة أشخاص في خلية أزمة بمكتب الإرشاد أو بوزارة الدفاع.
مجرد كلمة أو إمضاء من شخص بعيد قد لا نعرف اسمه أصلاً، قد يغير حياة الملايين تماماً.
نوع آخر من الانتهاك شعرت به حين زرت سوريا منذ 5 أعوام، وهو انتهاك الحرمة، واقتحام مجالي الشخصي، وإجباري في كل لحظة على رؤية وجه واسم الزعيم أو استحضار وجوده بالحذر من كل كلمة أنطقها.
صور بشار وأبيه وأخيه الذي يطلقون عليه الشهيد باسل- رغم أنه مات في حادثة عادية- في كل ركن.
على مستشفى العيون صورة ضخمة له مكتوب تحتها «أنت في عيوننا»، على مستشفى القلب صورة ضخمة أخرى وعليها عبارة «أنت دائماً في القلب»، على مدرسة أثرية عثمانية صورة له يقبل المصحف مع عبارة «الرئيس بشار الأسد راعي العلم والعلماء»، على مقر نقابة الفلاحين صورة لحافظ الأسد عليها عبارة «الفلاح الأول!»، في أحد ميادين دمشق الكبرى نجد تمثالاً لحافظ الأسد، وعلى الجدار بخط عربي منقوش «قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد»، وتحتها صورة ضخمة لبشار وعليها شعار «نعم إلى الأبد» وهو الشعار المتكرر في أماكن كثيرة!
سخرت مع أصدقائي «أنا خايف أدخل الحمام ألاقي صورة بشار وعليها جملة أول واحد استحمى»، لكنه ضحك كالبكا.
حين زرنا حماة رأينا عشرات اللافتات التي تحمل صور حافظ وبشار وتحتها عبارات من نوع «الذكرى الخامسة والعشرين للحركة التصحيحية».. كانو يضعون لافتات احتفالية كل عام في ذكرى مذبحة حماة، ثم لا يرفعونها ولا يجرؤ أحد المذلولين على لمسها!
على الجدران القديمة في أكبر ميادين حماة بخط عربي ضخم مكتوبة عبارات «الإخوان أذناب الاستعمار.. الإخوان عملاء الرجعية». تذكرت تخليد الفراعنة لانتصاراتهم على جدران المعابد، فكرت في تصوير الجدران ثم شعرت بالخوف فتراجعت!
في مصر كان من العادي جدًا أن يشتم الناس في القهاوي ووسائل المواصلات مبارك وينتقدون أحوال البلد، بينما يستحيل هذا في سوريا تحت طائلة الموت.
الانتهاك هو ما سأشعر به لو تصورت نظاماً كنظام بشار المتسلط المجنون يحكم مصر، لكني أعود وأقول إن هذا هو أيضاً ما سأشعر به لو تصورت قصفاً أمريكياً على شوارع القاهرة، على كوبري 6 أكتوبر أو شارع الجلاء. لو تصورت تدمير دار القضاء العالي أو ذوبان تماثيل أسود قصر النيل بفعل حرارة الصواريخ.
(4)
عن الاختيارات الحزينة
كنت طيلة عمري أكره صدام.
ديكتاتور دموي سفاح ارتكب جرائم رهيبة ضد شعبه، تعذيب ومذابح ومقابر جماعية، وتبديد لثروة البلاد في الفساد وفي حروب عبثية، يبدو مبارك بجواره قمة في الرقة والطيبة.
لكن الآن الخيار بين السفاح صدام، وبين الغزو الأمريكي، ولا ثالث لهما.
الغزو مصير أسود، والنصر مثله، لأنه سيكون حينها نصرًا لصدام لا العراق.
سيهتف المهللون والمطبلاتية: «صدام البطل المغوار، صدام العظيم الجليل، سحق أقوى دولة في العالم! المجد لصدام ولأبنائه وأحفاده من بعده، ولحزب البعث ومن والاه، إلى أبد الآبدين! واللعنة كل اللعنة على أي معارض من الخونة عملاء الأمريكان.. كيف نختار بين المآسي؟»
في مصر مررنا بتجربة شبيهة- مع اختلاف الموقف طبعاً- حين اضطررنا منذ عام للاختيار بين شفيق ومرسي، والآن يتم تكرار الاختيار نفسه تقريبًا!
في الحالتين كلا الخيارين لا يمثل مطالب الثورة والأمل الذي حلمنا به، وفي الحالتين تسوء أحوال عامة الناس، وفي الحالتين يتم تعيير من اختار، في المرة الأولى تبادل الطرفان المعايرة بين لوم «الفلول» و«عاصري الليمون»، ثم الآن تتكرر المعايرة بأوصاف «عبيد البيادة»، «عبيد المرشد»، «شمامو الكولة».
هل سوريا التي يستعبدها آل الأسد إلى الأبد، والتي تسجن فيها طل المويلحي، وتنتزع أجهزة الأمن أظافر الأطفال في درعا، وحنجرة إبراهيم القاشوش في حماة، هي البديل الوحيد لسوريا المقسمة طائفياً التي تسيطر عليها الميليشيات وأمراء الحرب أو سوريا المحتلة أمريكيًا؟
هل الموت برصاص وطني هو البديل الوحيد للموت برصاص أجنبي؟
وهل من ينشدون «جولو للعالم مصر إسلامية»، هم البديل الوحيد لمن يرقصون على «تسلم الأيادي؟»
ليس عندي ولا عند غيري إجابات أكيدة، لكن كل ما جرى بالفترة الماضية، ومن قبل بالتاريخ، يعلمنا أن كل الاحتمالات في الحقيقة مفتوحة حتى لو كانت مؤجلة. لا يقين بالنصر ولا يقين بالهزيمة، ولا تفاؤل كامل أو تشاؤم كامل. كل شيء من أفضل الاحتمالات إلى أسوأها، ومن أسرعها إلى أبطأها ممكن.
فقط علينا ألا نخسر أنفسنا.
فقط علينا أن نحاول.
ربما ننفق كل العمر كي ننقب ثغرة.