التقيت الموسيقار الكبير منير مراد مرة واحدة فى منزله بوسط المدينة وأظنه كان بيتا ومكتبا بعدها بأيام قليلة رحل عن عالمنا وتصادف أنه كان يفصله 12 يوما فقط عن اغتيال الرئيس أنور السادات، كانت مصر تتحسس اسم الرئيس القادم، وهكذا كان وداعه مثل حياته إبداعا متميزا، ولكن لا وجود للصحافة والتليفزيون، فلم نكن قد وصلنا بعد إلى زمن الفضائيات.
لا أتذكر أننى رأيت مرة منير مراد فى لقاء تليفزيونى، ولو كان قد حدث فالمؤكد أن هناك من مسح هذا التسجيل.. ما أتذكره أنه اصطحبنى إلى غرفة صغيرة بمنزله وأشار إلى عشرات من أسطوانات سلك قبل اختراع الأسطوانة المتعارف عليها، وقال لى إن هذه تحف غنائية نادرة يتمنى أن تحافظ عليها الدولة، أغلب الظن أنه لم يتنبه إليها أحد، وتم التخلص منها بعد رحيله لأحد بائعى الروبابيكيا.
ما تبقى منه خارج نطاق الأغانى والأفلام التى لعب بطولتها تسجيل إذاعى جمعه مع عبد الحليم وشقيقته ليلى مراد وكان منير يمسك بالعود وليلى تغنى «ليه خلتنى أحبك» و «سنتين وأنا أحايل فيك»، ربما لولا وجود عبد الحليم كنا قد حرمنا من هذا التسجيل الذى جمع بين العمالقة الثلاثة وأظنه كان لقاء أقرب للصلح بين عبد الحليم وليلى بعد أن أخذ منها عبد الحليم أغنية «تخونوه» التى لحنها بليغ حمدى قبل أن تسجلها على أسطوانة فكانت واحدة من أغنيات فيلم «الوسادة الخالية» ولكن هذه قصة أخرى.
أعادنى إلى زمن منير مراد كتاب قرأته مؤخرا لوسام الدويك تناول حياته أطلق عيه اسما موحيا وهو «التياترجى»، وفى زمن منير مراد كان المسرح يطلق عليه الاسم الإيطالى «تياترو»، وحقيقة الأمر أن منير مراد، أستاذ فى فن الفرجه حتى موسيقاه عندما نستمع إليها تستدعى على الفور ألوان قوس قزح المبهجة، كان منير ظاهرة إبداعية متكاملة يرقص ويغنى ويمثل، التليفزيون المكسيكى تنبه إليه منذ الخمسينيات وكان يقدم لهم برنامجا أسبوعيا، بينما التليفزيون المصرى الذى أنشئ عام 60 عندما تقابل منير مع أحد كبار الموظفين وعرض عليه فكرة التلحين على الهواء للأخبار والمانشيتات الصحفية لم يتحمس له وربما اعتبرها نوعا من الجنون، رغم أنها دلالة على شطارة الملحن.. منير بدأ حياته بتلحين المانشيتات وكذلك كمال الطويل.
منير هو صاحب أكثر النغمات مشاغبة وشبابية فى تاريخنا الغنائى «وحياة قلبى وأفراحه»، «ضحك ولعب وجد وحب» هل ننسى كيف استغل منير كل الأصوات فى المشهد عبد السلام النابلسى وسهير البابلى التى تزوجها فى تلك السنوات والثلاثى المرح، حتى الحصان كان يرقص على الإيقاع، هل ننسى كيف أننا عشنا الضحك واللعب والحب والحياة بكل بهجتها مع هذه الأغنية فى فيلم «يوم من عمرى» للمخرج المبدع عاطف سالم.
منير بدأ مشواره مع شادية، وإذا كان محمد فوزى هو الذى أطلقها ومحمود الشريف هو العمق الاستراتيجى لها فإنه التوأم الروحى لشادية، منذ أن قدم لها «واحد اتنين واحد اتنين أنا وياك يا حبيب العين».. واستمرت حالة التوأمة وومضات صوت شادية تتفتح على الجمل الموسيقية لمنير مراد، إنها لا تغنى فقط، بل ترقص وتضحك «يا دنيا زوّقوكى بالعز والهنا».
أنظر كيف كان يرى شريفة فاضل بنت البلد الجدعة الفهلوية التى لا يمكن أن يضحك عليها أحد.. أستمع إليها بكلمات العبقرى حسين السيد «على مين على مين ما تروحش تبيع الميه فى حارة السقايين.. ليك ماضى كله سوابق فى الحب مالهش أمان وأنا عايزه حب حنين مش حب يودى لومان».
دائما يستطيع منير مراد أن يكتشف لمحة جديدة فى الصوت «كعب الغزال» لمحمد رشدى الشعبية المودرن أو «شُفت الحب» لمحرم فؤاد مساحة من البهجة لم تستخدم من قبل ولم يكررها أيضا محرم، ثم عادل مأمون الذى وجد نفسه صوتا وهابيا غير قادر على العبور، بعيدا فيمنحه منير لحنا يحرره من تلك القيود وهو «أبعد عن الحب وغنى له»، وهكذا كانوا يقولون ساخرين «أبعد عن عبد الوهاب وغنى له»، و«علمنى الحب» فى فيلم «شارع الحب» تجد اللحن وكأنه يجسد صوت وملامح صباح، الأنوثة المتفجرة والصوت الآثر.
«التياترجى» منير مراد ما أشد حاجتنا فى هذا الزمن الحزين إلى موسيقاك التى تلحق بنا حيث نعانق «قوس قزح»!