حيثما تلفتِّ فثمة أسطورة. مخلوقة بآلية مجتمعية لا يهمنا الآن البحث فيها. لكن ما يهمنا أن الأساطير جميعًا تنتهى إلى هدفين. إما خلق وعى جديد، أو تثبيت وعى قديم.
يقولون لكِ «إيه هىّ أمريكا دى. بلد عمرها ٥٠٠ سنة ودا عامل لهم عقدة. بيكرهوا الحضارات القديمة».
حتى لو الفار لعب فى عبك وظننت أن الموضوع مش هيوصل لدرجة «عقدة» يعنى، فلن تعلّقى، ولن تعترضى. بل ربما تعجبك الأسطورة وترين أنها منطقية تمامًا. فالعراقة فيها تراكم للخبرات لا يتوفّر لدى المحدثين. ولا بد أن من هذه الخبرات المتراكمة ما يحسدنا عليه الأمريكان. ما يحسدون عليه العراق «ميزوبوتونيا» ومصر «جبت» واليونان «الإغريق» والرومان، ومش بعيد الإمبراطورية البريطانية كمان. ما هو أوكازيون!
كل الحضارات اللى ذكرتها دى كانت حضارات لامعة. بس إمتى؟ أيوه. لما كانت عندها فكرة جديدة. يعنى كانت لامعة لما كانت -كحضارة عالمية- جديدة، وشابة فى أفكارها. كان فيها ناس عايشين من التاريخ السحيق، وأمريكا فيها ناس كانوا عايشين من التاريخ السحيق، لكن كلها برزت عالميًّا لما كانت أفكارها جديدة.
دا حصل مع الأغريق بالفلسفة والتفكير المادى، وحصل مع الرومان بالتخطيط المدينى والسياسى والصناعى على حساب الإغريق، وحصل مع مصر بالهندسة والفلك مش بقدم الناس، وحصل مع بابل بالتشريعات المجتمعية، وحصل مع الإسلام، ثم مع التتار. وحصل مع فرنسا بفكرة الجمهورية. وحصل مع إنجلترا البروتستانتية بفكرة الديمقراطية والمنهج العلمى فى التفكير ثم الثورة الصناعية.
عراقة كل حضارة من تلك تظهر فى مدى وحجم استمرار فنونها وآدابها ورؤاها، وانتقالها عبر الزمن، حتى بعد انزياحها عن موقع الصدارة. هذا التكريم الأسمى لحضارة قديمة. لكن التكريم المستحق، والاحتفاء الواجب، لا بد أن يوجّه نحو الجديد، نحو إدراك الفكرة اللامعة التى جاء بها فتلقفها الناس. التكريم الآن تستحقه أمريكا، التى قادت العالم لمدة قرن حتى الآن، ومن المتوقع أن تقوده لقرن آخر.
بل الشواهد التاريخية تقول إنه من الصعب جدًّا على أمة ذات حضارة قديمة أن تبنى حضارة صدارة جديدة. إلا بأفكار جديدة. بحماس الأفكار الجديدة وطزاجتها. وهذا هو الوجه الآخر من انتقاد الأسطورة. فالاعتقاد بأن مَن بنوا حضارة يومًا ما هم الأقرب والأحق بقيادة العالم، بالنظر فى أفكارهم القديمة وإحيائها، مجرد نكتة، لكن الناس يتداولونها ولا يضحكون عليها. قد تبنى دولة ذات حضارة قديمة دولة حديثة، جيدة، فى مستوى الطالبة المتوسطة أو فوقه قليلًا، قد يحدث هذا، لكن من الصعب جدًّا أن تعود لتصير فى الصدارة. الصدارة تتطلّب شروطًا مختلفة تمامًا. أولها -مفاجأة- الحداثة والطزاجة، لا القدم. ولهذا تبرير منطقى.
الحضارات القديمة تعيش مرهونة بثقل فترات نبوغها. الحذاء القديم الذى تركته لك أمك، والذى تحملينه من مكان إلى مكان، وتبحثين عن شبيه له. لكنك لا تستطيعين ارتداءه، ولو حدث وارتديتيه سيسخر الناس منك. هذا الحذاء، فى وقته، كان دهشة العالم ومحط إعجابه، لكنه الآن ذو قيمة عندك، بسبب ما يحيط به من مشاعر وذكريات. وله قيمة متحفية عند صانعى الأحذية الجديدة. خبرة صناعته انتقلت بالفعل من جيل إلى جيل لدى صانعى الأحذية. مصممو الأحذية المهتمون سيكتفون بالنظر لمدة دقيقتين إلى حذاء أمك، أو لمدة خمس ثوانٍ إلى صورة له فى الكتالوج، لا أكثر.
أبناء الحضارات القديمة يبذلون معظم مجهوداتهم لبناء المستقبل فى معارك مع موروثات حضارتهم القديمة، فى معارك مع القيم، والمفاهيم، والتقاليد، العزيزة عليهم هم، والتى صارت فى نظر العالم تافهة، أو ذات قيمة أقل. أبناء الحضارات القديمة، يناقشون قيمًا كانت ممتازة، مناسبة جدًّا، لوقت صعود حضاراتهم. المهمة الصعبة هى أن يدركوا عامل الزمن ذلك. المهمة الصعبة هى أن يعلموا أنها كانت مناسبة ولم تعد. المهمة الصعبة هى أن يدركوا أن الحذاء الجديد أكثر نفعًا من الحذاء القديم، حتى لو كان الحذاء القديم أغلى على النفس.
وهذا ما تفشل فيه الحضارات القديمة. أما الجديدة فمرتاحة من عنائه، وتوفّر مجهودها للانتقال إلى المستقبل.