معركة كسْب الوقت على الطريقة الإيرانية
ما موقف المسلحين والصقور العرب من مقترحات موسكو؟
واشنطن توقعت أن يكون الأسد نسخة من صدام والقذافى لكنها فوجئت بمرونته وتجاوبه مع المبادرة الروسية
روسيا أربكت حسابات واشنطن لفترة من الوقت.. لكن أمريكا لن تتراجع أبدا عن الضربة العسكرية
ألقى الدب الروسى «كرسيا فى الكلوب» فى اللحظات الأخيرة.. أنقذ الجميع وأولهم الرئيس الأمريكى باراك أوباما من ورطة سياسية فى غاية السوء، وأوقف أو أجَّل على أقل تقدير مغامرة عسكرية لا يمكن تخيل عواقبها على المنطقة والعالم. بعد سويعات قليلة على إعلان وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى من لندن أن الرئيس السورى بشار الأسد يمكنه أن يتفادى تعرضه لضربة عسكرية إذا سلم مخزونه من الأسلحة الكيمياوية إلى المجتمع الدولى فى غضون أسبوع، كانت موسكو جاهزة بمبادرة تبنى على كلمات كيرى، وفاجأت دمشق الجميع بالقبول بها سريعا.
«التحرير» ترصد من عاصمتى صناعة القرار فى العالم أصداء وفرص نجاح المبادرة التى كانت بمنزلة طوق نجاة للرئيس أوباما الذى كان فى وضع سياسى بالغ الحرج، وهو يحاول إقناع أغلبية من أعضاء الكونجرس الرافضين أو المترددين فى منحه صك التأييد للعمل العسكرى، فضلا عن رأى عام أمريكى يرفض فى غالبيته مثل هذا التحرك غير محسوب العواقب.
وفى حين يظل شبح التدخل العسكرى ماثلا، بعد أن صعدت واشنطن تهديداتها لمستويات غير مسبوقة منذ بداية الأزمة، فإن هذا التطور ينقل الصراع فى سوريا إلى مرحلة جديدة. لن ترضى الولايات المتحدة باستمرار الوضع كما هو عليه فى سوريا، لكن سقوط نظام الأسد ربما يكون بمنزلة سقوط للدولة السورية، ويفتح الباب لفوضى عارمة فى المنطقة، وهو ما لا يتمناه الجميع.
والأيام القادمة ربما تشهد المزيد من المفاجآت، سواء فى ما يتعلق بتنفيذ هذه المبادرة، أو فى طرح سياسى جديد لحلحلة الأزمة تكون فيه روسيا وإيران حاضرتين بقوة.
لم يكد وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف ينتهى من مؤتمره الصحفى الذى أعلن فيه مقترح روسيا بوضع السلاح الكيماوى السورى تحت الرقابة الدولية، إلا وأعلن وزير الخارجية السورى وليد المعلم على الفور أن سورية ترحب بالمبادرة الروسية. وقال المعلم: «أعلن ترحيب الجمهورية العربية السورية بالمبادرة الروسية بناء على حرص القيادة السورية على أرواح مواطنينا». ورحب أيضا «بحكمة القيادة الروسية لمنع العدوان الأمريكى ضد شعبنا». والتقط الأمين العام للأمم المتحدة بان كى مون المبادرة والموافقة معا، ليؤكد أنه يدرس إمكانية تقديم مبادرة جديدة بنقل كل السلاح الكيميائى ومكوناته بشكل عاجل إلى أماكن آمنة فى سورية لتخزينه وتدميره. وشدد على ضرورة انضمام سورية إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
من الواضح أن الولايات المتحدة لم تكن تتوقع رد فعل الأسد الإيجابى على وضع الأسلحة الكيماوية فى سورية تحت الرقابة الدولية. وكانت واشنطن تتصور أنه سيكون غير مرن، وأن رد فعله سيكون مثل ردود أفعال صدام حسين ومعمر القذافى المتصلبة.
يبدو أن روسيا رتبت الأوراق تماما وبشكل قد يكون أدهش الولايات المتحدة نفسها وأوقعها فى ارتباك ستخرج منه قريبا. فالمسألة، مسألة وقت، لأن الولايات المتحدة لن تتراجع عن الضربة العسكرية. إذ يمكن تأجيلها مع إفساح المجال أمام عناصر القوات الخاصة الأمريكية والفرنسية فى تنفيذ عمليات تخريبية داخل سورية.
من جهة أخرى ستكون هناك اتهامات جديدة إضافية، لأن نظام الأسد يريد كسب الوقت على الطريقة الإيرانية، بينما واشنطن وحلفاؤها يتعجلون الانتقال إلى مستوى آخر فى الملف السورى. وبالتالى، قد تبدأ الخلافات على آليات وضع السلاح الكيماوى السورى تحت الرقابة الدولية وتشكيل لجان واستصدار قرارات من مجلس الأمن. وستسير الأمور على نسق الملف النووى الإيرانى. ولا يمكن أن نستبعد أنه بعد وضع الأسلحة الكيماوية تحت الرقابة الدولية، أو فى أثناء العمل على ذلك، تظهر مقترحات، شروط جديدة بحظر إطلاق سورية صواريخ بمدى معين، ليصبح النظام السورى أمام خيار التدجين الكامل أو تلقى ضربات عسكرية موجعة. أو بمعنى أوضح، يجب نزع جميع أسلحة سورية من أجل أمن إسرائيل بالدرجة الأولى، وعدم تحالفها مع أى قوى إقليمية، أو مشاركتها فى أى احتكاكات إقليمية مقبلة لصالح حلفاء ما! وهذا تحديدا ما ذكرته مستشارة الأمن القومى الأمريكى سيوزن رايس فى فى كلمة أمام مؤسسة «نيو أميريكا فاونديشن الفكرية» يوم أول من أمس الإثنين 9 سبتمبر بأن الولايات المتحدة يجب أن توجه ضربة عسكرية لسورية لأن ذلك يبعث برسالة إلى حليفتها إيران بشأن برنامجها النووى. ورأت رايس أن القيام بعمل أمريكى ضد سورية مهم كذلك بالنسبة لنفوذ الولايات المتحدة التى تحذر مع إسرائيل ودول أوروبا، تحذر إيران من تطوير أسلحة نووية، مؤكدة أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووى.
إن واشنطن تترك الأبواب كلها مفتوحة خلفها فى حال موافقتها على ترحيب سورية بمقترح روسيا الذى لا يختلف عن مقترح جون كيرى. ففى كل الأحوال لم تصدر التقارير بعد، حول من الذى استخدم الأسلحة الكيماوية فى سورية! ومن المتوقع أن تتسبب هذه التقارير فى رفع حالة التأهب القصوى ونقل الأوضاع إلى حافة الحرب مجددا بصرف النظر عن الطرف الذى استخدم الأسلحة الكيماوية.
لقد ظهرت تصريحات رايس، المثيرة للتساؤلات، بعد ساعات قليلة من موافقة سورية على المقترحات المقدمة بشأن الأسلحة الكيماوية. إذ قالت رايس إن السلاح الكيميائى السورى فى حال وقوعه فى أيدى المتطرفين قد يشكل تهديدا للمواطنين الأمريكيين فى الخارج، وحتى فى الداخل.
وأشارت إلى أن استخدام السلاح الكيميائى يوم 21 أغسطس فى سورية دليل على وجود خطر وقوعه فى أيدى المتطرفين، بما فى ذلك «حزب الله» اللبنانى وفروع «القاعدة». وقالت: «هذا الاحتمال يعرض الأمريكيين لخطر الهجمات الكيميائية الموجهة ضد عسكريينا ودبلوماسيينا فى المنطقة، وحتى مواطنينا على أراضينا».
وأكدت رايس أن واشنطن ستعمل من أجل عقد المؤتمر الدولى حول سورية، لكن بعد توجيه ضربات إلى دمشق، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة ستستأنف جهودها الدبلوماسية من أجل حل الأزمة بعد توجيه «ضربات عسكرية محدودة» لسورية. وذكرت أن هذه الضربات قد تكون موجهة إلى مستودعات السلاح الكيميائى ووسائل حمله ومكونات إنتاجه. وجددت التأكيد على أن العملية العسكرية فى سورية ستكون محدودة المدى ولن تهدف إلى إسقاط نظام بشار الأسد. وأوضحت أن إسقاط النظام يتطلب إجراء عملية بنطاق أكبر، غير ما تخطط له الإدارة الأمريكية حاليا.
وجاءت الرسالة الثانية من نائب مستشار الرئيس الأمريكى لشؤون الأمن القومى تونى بلينكن الذى شكك فى جدية نية دمشق وضع السلاح الكيميائى السورى تحت الرقابة الدولية. ولكنه، من جهة أخرى، أكد استعداد واشنطن لمناقشة المقترح الروسى بهذا الشأن، وقال: «نريد أن ندرس هذا الموضوع بجدية. وقد ناقشنا هذه الفكرة، طبعا، مع الروس». وأضاف أن أمريكا سترحب إذا وضعت سورية حقا سلاحها الكيميائى تحت رقابة دولية، لكنه عاد ليشكك مجددا فى ذلك، مشيرا إلى أن «المجتمع الدولى لم يتمكن من إقناع سورية بالانضمام إلى منظمة حظر السلاح الكيميائى خلال الأعوام العشرين الماضية»، وأن «دمشق حتى الأيام الأخيرة لم تعترف بامتلاكها لهذا السلاح». وفى نهاية المطاف عاد بلينكن ليجدد الموقف الأمريكى حول أن واشنطن مقتنعة بأن النظام السورى استخدم السلاح الكيميائى، وأن أمريكا إذا امتنعت عن الرد سترسل «رسالة خاطئة».
وبالتالى، وعلى الرغم من شبهة الاتفاقات والتواطؤات، وربما الوساطات والمفاوضات السرية، نجد أن هناك حالة من خلط الأوراق بشكل غير مسبوق: حزب الله والقاعدة وفروعها، وكأن واشنطن وأجهزة استخباراتها بعيدة تماما عن كل ما يجرى وعن تحركات القاعدة بالذات! وقوع الأسلحة الكيماوية فى أيدى المتطرفين، وكأن المتطرفين لا يحصلون على الأسلحة والكيماويات إلا من جيش النظام السورى! تعرض الأمريكيون فى الخارج والداخل لهجمات بالأسلحة الكيماوية، وبالذات الكيماوية التى ستقع فى أيدى المتطرفين من ترسانة النظام السورى!
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما موقف المعارضة المسلحة فى سورية من مقترح كيرى الذى وافقت عليه دمشق الرسمية بوساطة روسية، إن لم يكن بنصح روسى؟! وما موقف فروع القاعدة فى سورية؟! ما الخطط القريبة لهذه المعارضة، وما أشكال الدعم الأمريكى الأورو أطلسى لها على المديين القريب والمتوسط؟ وما موقف الصقور العرب الذين أعلنوا استعدادهم لتدمير سورية؟! وما مصير ما يسمى بموتمر «جنيف ٢» الذى كان من المقرر انعقاده فى نهاية مايو ٢٠١٣؟