لا أدرى لماذا، عندما سمعت عن مقتل الكاتبة الهندية سوشميتا بانرجى، تذكرت على الفور القيادى السلفى عبد المنعم الشحات بملامحه الغليظة وهو يهاجم نجيب محفوظ ويتهم أدبه بالانحلال والفسوق وركاكة الأسلوب، لا أدرى لماذا كان المذيع ينظر إليه ضاحكا بدلا من أن يقوم بطرده خارج الاستوديو، تذكرت أمثاله من أدعياء التدين وهم يحرضون بغير علم، ويهاجمون دون تعقل أى فكر يمكن أن يضىء الذهن والوجدان.
كنت متشائما من قوتهم المتصاعدة، ومن بشاعة المصير الذى كان ينتظرنا جميعا إذا امتلكوا كل أدوات الحكم، فليس «الشحات» بوجهه الأشعث الخالى من أى ملامح للرحمة أو التعاطف، إلا صورة أخرى من «طالبان» بتخلفها وشراستها، فهذه الكاتبة الهندية لم تفعل غير أنها كشفت جانبا من وقائع العنف والإقصاء التى مارسته قوات «طالبان» ضد المرأة على وجه الخصوص فى أثناء فترة حكمها لأفغانستان، فقد منعت البنات من الذهاب إلى المدارس، وحرّمت أى محادثة بين الرجال والنساء، وعدم خروجهن من البيوت إلا بتصريح مكتوب من أزواجهن، ثم تطور الأمر لتحريم خروجهن نهائيا، أدخلن النساء إلى سجن إجبارى مقيم، لقد وجدت جثة السيدة ملقاة بجانب إحدى المدارس الدينية وقد أطلق عليها عشرين رصاصة، تدل كل واحدة منها على مدى الغضب والحنق الذى كان يكنّه القتلة لها، وتحكى أيضا جانبا من المأساة التى عاشتها وانتهت باغتيالها.
روت الكاتبة تجربتها فى كتاب «هروب زوجة بنغالية»، وقد حقق شهرة واسعة واحتل قائمة المبيعات، ثم أنتجته السينما الهندية «بوليوود» فى فيلم ضخم، فى صورها المنشورة تبدو سمينة وضخمة بعض الشىء، تحمل ملامح الأمهات، بما فيهن من طيبة ورقة، ولكن مأساتها الحقيقية هى أنها أطاعت قلبها، ولم تستطع أن تسكت ضميرها، وحين قابلت «جنكيز خان» رجل الأعمال الأفغانى، وليس الغازى الأعظم، لم تكن أكثر من فتاة صغيرة تهوى كتابة الشعر وتدرس فى كلية للتمريض لتكون قابلة قانونية، عرض عليها الزواج فقبلت شريطة أن يبقى سريا حتى لا يعترض أهلها الهندوسيون على زواجها من مسلم، ولكن الخبر تسرب، وحاصرها أهلها وأصروا على أن يتم الطلاق، ولكن قلبها النيّئ لم يشأ أن يتخلى عن رجل عمرها، كما تقول، وفضلت أن تهرب معه إلى بيت عائلته فى أفغانستان، وهناك تلقت صدمتها الأولى، اكتشفت وجود زوجة أولى لجنكيز خان هى «جولجوتو» وله منها أولاد أيضا، ولم يكن هناك بيت خاص بها ولكن يقاسمهما فيه أيضا ثلاثة من إخوة الزوج الذكور، شعرت أنها أطاعت قلبها أكثر مما ينبغى، ولكنها لم تكن تستطيع العودة بعد أن أحرقت كل الجسور مع أهلها، فضلت أن تبقى، وأن تمارس عملا يساعدها على العيش، أنشأت عيادة لرعاية الحوامل ومساعدتهن على الولادة، وكما تقول: كانت الأمور طيبة حتى عام 1993 عندما استولت حركة طالبان على جنوب البلاد بعد سنوات من الحرب، اقتحموا عيادتى وقرروا أننى سيدة فاجرة لا تصلح للتعامل مع نساء المسلمين»، كانت هذه صدمتها الثانية ولكنها امتصتها، أعلنت إسلامها وتغير اسمها إلى «كمالا»، ورضيت بلبس البرقع، ولكن «طالبان» لم ترض عنها، أمروا بحبسها داخل المنزل، هددوها بالقتل إذا خطت بقدميها فى الشارع، تم سجنها دون ذنب، أصبحت شاهدا صامتا على تردى أحوال المرأة تحت حكم «طالبان»، إقصاء ومطاردة وأحكام إعدام تنفذ تحت اسم تطبيق الشريعة، وجدت نفسها على حافة الخطر، فرغم إعلان إسلامها فإن «طالبان» ظلت تعتبرها كافرة، لم يكن هناك مفر من الهرب إلى الهند، واستطاعت أن تهرب بالفعل بمعاونة بعض الفلاحين فى البلدة، استقلت سيارة إلى كابول حيث طلبت من السفارة الهندية إعادتها إلى ابلدها، ولكن إخوة الزوج الثلاث لحقن بها، أقنعنها بأن الأمور ستكون على ما يرام، ستكون فى حمايتهن ولن يمس أحد شعرة من رأسها، كان قلبها ما زال نيِّئًا، وأرادت أن تثق فى وعودهن، واعتقدت أنها تعود معهن إلى بيت عائلتها، ولكنها اكتشفت أنها عادت إلى السجن من جديد، فلم يُعدنها إلا خوفًا من انتقام «طالبان». والأدهى أنهم أصدروا بالفعل فتوى بقتلها، أصبح وجودها على قيد الحياة مسألة وقت، وكان عليها أن تحاول الهرب هذه المرة بلا عودة، كانت جدران الغرفة المسجونة فيها من الطين، واصلت النبش دون هوادة حتى تمكنت من فتح ثغرة استطاعت أن تنفذ منها إلى الخارج، ولكن لسوء حظها وقعت فى أيدى إحدى دوريات «طالبان»، أخضعوها للاستجواب لمدة ساعات، حاولت إقناعهم بأنها مجرد مواطنة هندية، لا شأن لها بما يحدث فى بلادهم، كل ما تريده هو الرحيل، ولكن قرارهم النهائى كان قتلها، الصدفة فقط هى التى أنقذتها عندما تدخل شيخ البلدة، كانت قد أنقذت اثنين من زوجاته فى أثناء ولادتهما المتعسرة، وحفظ لها الرجل الجميل فأقنعهم بتركها تمضى، استطاعت أخيرا العودة إلى «كولكتا»، الموطن والأمان، وبدأت مواهبها فى الكتابة فى التفتح، كتبت تجربتها فى كتاب «هروب زوجة بنغالية»، وسرعان ما انتشر الكتاب وأصبح من أكثرها رواجا، وانتقلت شهرته من الهند إلى أوروبا، شهادة من الداخل على نظام وحشى يخفى جرائمه تحت ستار تطبيق الشريعة، تماما كما تريد الجماعات السلفية أن تفعل بنا، وزاد من شهرة الكتاب ذلك الفيلم الذى أنتجته بليوود فى عام 2003.
ولكن القلب النيئ لا ينضج أبدا، سقطت «طالبان» وجاء الأمريكان، عاثوا وأحرقوا وقتلوا، ولكنهم لم ينتصروا، وضعوا حكومة لم يصدقها أحد، بدأ زوجها يطلب منها العودة إلى بيت آخر فى مقاطعة أخرى، زال خطر «طالبان» وسقطت فتاوى القتل، ولكن إخوتها وأصدقاءها حذروها من العودة إلى موطن الخطر، ولكنها فى أعماقها كانت تريد العودة، يحزنها أن يكون لها كتاب وحيد عن موضوع بهذه الخطورة، وتريد أن تجمع مادة لكتاب ثان يحتل قائمة المبيعات، وتنتج فيلما عن ما قاسته المرأة الأفغانية تحت حكم «طالبان»، عادت رغم كل التحذيرات إلى بيت مستقل فى مقاطعة باكيتا، واستعدت لتعيد فتح عيادتها مرة أخرى، ولكن حسب رواية زوجها فى يوم الأربعاء 4 أغسطس الماضى سمعا طرْقًا على الباب، وعندما فتحه فوجئ باثنين من الملثمين، يحملان البنادق السريعة الطلقات، اقتحما المنزل وقيدا الزوج جنكيز خان، الذى لم يكن له من اسمه نصيب، وعصبا عينيه وألقيا به على الأرض، وظل هكذا حتى صباح اليوم التالى عندما مر بالمنزل أحد الأصدقاء فوجد الباب مفتوحا والزوج مقيدا والزوجة مفقودة، وعندما ذهبا للبحث عنها وجدا جسدها وقد استقرت فيه الرصاصات العشرون.
لقد أنكرت «طالبان» قيامها بذلك، ولكن من المستفيد؟، ومن الذى يجرؤ على تنفيذ مثل هذه الجريمة الوحشية غير تلك الجماعات التى أغلقت قلوبها وعيونها وجعلت من أنفسها حكما على قلوب الآخرين عقائدهم وأديانهم؟ هذه الجماعات، أشقاء «طالبان» كانوا يحكموننا والآن يروِّعوننا، ولا يكفون عن تهديدنا، وما زالوا يعيشون بيننا ولعلهم الآن يعدون العدة لاغتيالنا.