تبدو لى النصوص الدستورية التى بدأت تطل، وأرجو أن أكون مخطئا، على أن الليبرالية الجديدة تجدد نفسها.. هذا إذا ما استعرنا عنوان المرجع المعتبر للدكتور فؤاد مرسى «الرأسمالية تجدد نفسها».. ويتلخص مشروع الليبرالية الجديدة المعدلة فى تبرير تخلى الدولة عن بعض من مسؤولياتها فى مجالات التعليم والصحة.. وهنا أشير إلى النصوص المقترحة فى هذا المقام.. ففى المواد 17و19و18 على التوالى نجد عبارة «.. وتخصص- الدولة- لها (الصحة والتعليم والجامعات والمجامع العلمية واللغوية ومراكز البحث العلمى) نسبة كافية من الموازنة العامة للدولة».. وفى الواقع لم أفهم ماذا تعنى نسبة كافية؟
فمن المفترض أن هناك خطة شاملة للتنمية مركبة ومتداخلة ووفقها تلتزم الدولة بضمان الميزانيات الضرورية لجعل الخطط التنموية حقيقة.. سواء وحدها أو بالشراكة مع الاستثمارات المتنوعة.. فلو رجعنا إلى الدستور البرازيلى، على سبيل المثال، الذى يعلن بوضوح أنه يتبع «الاقتصاد الحر».. يذكر فى المادة 170: «المقصود بالنظام الاقتصادى، القائم على أساس تقدير قيمة عمل الإنسان والاقتصاد الحر، هو أن يكفل لكل شخص حياة كريمة، لما يمليه العدل الاجتماعى، مع إيلاء الاعتبار الواجب للمبادئ التالية: أولا: السيادة الوطنية، ثانيا: الملكية الخاصة، ثالثا: الوظيفة الاجتماعية للملكية، رابعا: المنافسة الحرة، خامسا: حماية المستهلك، سادسا: حماية البيئة، سابعا: الحد من الفوارق الإقليمية والاجتماعية، ثامنا: السعى إلى تحقيق العمالة الكاملة، تاسعا: المعاملة التفضيلية للمؤسسات الصغيرة المنظمة بموجب القوانين البرازيلية، والتى يوجد مقرها الرئيسى وإدارتها فى البرازيل.. وفى المقابل ينص الدستور على «قمع إساءة استخدام السلطة الاقتصادية التى ترمى إلى السيطرة على الأسواق، وإزالة المنافسة، (الاحتكار) وزيادة الأسعار تعسفا (المادة 172: الفقرة 4)».
هذا نوع من الاجتهادات التى تعلن بوضوح انحيازها الاقتصادى لكن المقيد والمشروط بتأمين العدالة الاجتماعية و«قمع» الاحتكار، وضمان العمالة... إلخ.. ويلتزم هذا النظام بتنفيذ نظام ضرائبى متدرج بحسب القدرة الاقتصادية لدافع الضريبة.. (المادة 145/ الفقرة 1).. ويميز الدستور البرازيلى بين الرسوم العامة، التى تأتى من أشغال عامة أو خدمات عامة، وبين الضرائب.. الرسوم لابد أن يتساوى فيها الجميع بغض النظر عن المكانة الاجتماعية أو الثروة.. بينما الضرائب لابد أن تكون بحسب طبيعة العمل وفائض الثروة.. بل وبحسب الملكية تعاونية أم خاصة أم استثمارية أم عامة.. ويلاحظ أن كل هذا منصوص عليه فى الدستور فى الباب السادس المعنون: «فرض الضرائب والميزانية»: من المادة 145 إلى المادة 162، وتحفل هذه المواد بعشرات الفقرات والبنود التفصيلية، التى تنحو إلى تأمين العدالة بين الجميع من خلال طرق التوزيع وأنواع التخصيص التى تتناول كل شىء.
أكثر من مرة كتبنا كيف أن المسألة الاقتصادية/ الاجتماعية، هى الملف المسكوت عنه.. وكيف أن: «فصلى الحراك والتمرد من دراما الثورة»، لم تستطع أن تفرض أى رؤية للنموذج التنموى الذى يجب أن يتبعه بلد يقترب عدد سكانه من الـ100مليون نسمة ويعانى من مشكلات عضال.. لعل من أولى هذه المشكلات هى أن استمرار «الاقتصاد الريعى»، الذى يقوم على احتكار البعض للثروة، لا يمكن أن يبنى وطنا مثل مصر.. فالتغطية على هذه المسألة بالحديث المفتعل عن الهوية، كما جرى فى دستور منتصف الليل، لن يجدى معه التغافل عن مواجهته.. وإلا فإن الحراك الذى بدأ ناعما سوف يتحول لأن يكون خشنا فيما يتعلق بهذه المسألة تحديدا.
نحن بحاجة إلى مجتمع إنتاجى مركب: صناعى، زراعى، تكنولوجى.. ولهذا حديث آخر.