أود فى البداية أن أعترف بأننى لست من أنصار المصالحة التى يروّج لها البعض داخل وخارج الحكومة المؤقتة، فلم يحدث فى تاريخ الثورات أن قام الثوار المنتصرون بمصالحة مع من قاموا بثورة ضدهم، وفى الثورات الكبرى: الفرنسية والروسية والإيرانية، على اختلافها، لم يتم التصالح مع النبلاء الفرنسيين، ولا الإقطاعيين والرأسماليين الروس، ولا أتباع الشاه الإيرانيين.
لقد أحرز الشعب المصرى انتصارا سياسيا استراتيجيا على ما يسمى تيار الإسلام السياسى، الذى يمثل أكثر الفئات رجعية وتخلفاً فى الطبقة الحاكمة التى كانت- ومازالت- تتبنى أشد السياسات عداء للشعب المصرى، خاصة طبقاته الفقيرة والمضطهدة من عمال وفلاحين وموظفين صغار وعاطلين ومهمشين، وهى السياسات التى يسميها أهل الاختصاص «سياسات الليبرالية الجديدة».
إن أهم ما يميز المواجهة الحالية لتيار الإسلام السياسى التى بلغت أوجها فى الموجة الثانية من الثورة فى 30 يونيو 2013، والتى نتجت عنها هزيمة تاريخية غير مسبوقة لهذا التيار الرجعى هى أن من يقود المواجهة هو الشعب المصرى الذى اكتشف زيف وكذب وادعاء وعدم كفاءة هذا التيار، على عكس مواجهات سابقة كانت الأجهزة الأمنية هى التى تتولى، منفردة، عبء هذه المواجهة، سواء فى عصر الملك فاروق، أو جمال عبدالناصر أو حسنى مبارك، وهو ما كان يتيح للجماعة اكتساب تعاطف شعبى والعودة بعد فترة للظهور.
لقد انتهت جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها من السلفيين والمؤلفة قلوبهم، ولا أمل لها فى أن تعود لحكم مصر، وسيعقب هذا على الأرجح تضاؤل فرصهم فى بقية البلدان العربية، وبدلاً من الاستسلام الذى يحفظ دماء الشعب المصرى والجسم الرئيسى من عضوية هذه الجماعات، اختاروا الإرهاب الذى سيؤرقنا لفترة ليست طويلة ولكنه سينتهى بعد المواجهة الأمنية العنيفة الدائرة الآن بخسائر فادحة فى أرواحهم وخسائر أقل فى صفوف الشعب.
يبقى المجال الثقافى الذى لم تبدأ فيه المواجهة بعد، وهو أهم المجالات ولا مصالحة فيه، ويبدأ من تطهير الدستور من كل التخريب السلفى/ الإخوانى الذى مازال على ما يبدو يبتز الحكومة الانتقالية بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا ما تم تأسيس دولة مدنية حديثة تقف على مسافة متساوية من معتقدات مواطنيها ولا تتدخل لتفرض عليهم ما تراه «الدين الحق»، ولا تتدخل فى معتقدات مواطنيها من أتباع هذا الدين لتفرض عليهم ما تراه «صحيح الدين»، ويدخل فى هذا الإطار أيضا تطهير المؤسسات العامة من الإخوان والسلفيين، سواء من أدخلهم الإخوان لإحكام السيطرة على هذه المؤسسات، أو الخلايا التى كانت نائمة واستيقظت وأسفرت عن وجهها القبيح عند وصول الإخوان إلى الحكم، وليس معقولاً أن يوجد ملايين المصريين العاطلين ويستأثر بفرصهم أناس غير مؤهلين، لا لشىء إلا لأنهم من الإخوان والسلفيين.
إلا أن المجال الأهم والذى سأركز عليه فى بقية هذا المقال هو التعليم، وفى دراسة قيمة صدرت عام 2009 للدكتور عماد صيام بعنوان «المؤسسة التعليمية وجماعات الإسلام السياسى وآليات إنتاج ثقافة التمييز الدينى»، أشار إلى أن المؤسسة التعليمية تلعب دورا خطيرا من خلال مسؤوليتها عن تحديد ملامح الثقافة السياسية للمجتمع، عبر ما ترسيه من قيم يحددها نمط التنشئة الاجتماعية، من خلال البرنامج التعليمى والتربوى الذى تقدمه، وقد أدركت تيارات الإسلام السياسى مبكرا هذه الأهمية للمؤسسة التعليمية، وإمكانية توظيفها فى بناء ثقافة سياسية مساندة لمشروعها السياسى.