أحد أصدقائى النادرين اسمه رجاء، كانوا يقولون عنه «مجنون»، مات فقيراً لم يحصل على جائزة واحدة، ولم يتزوج ولم ينجب، كتب رواية واحدة لم ينشرها أحد، كنت الوحيدة التى تفهمه وتؤمن بموهبته النادرة، قال لى عبارة تذكرتها اليوم فقط بعد أن مات فى ريعان شبابه وكنت فى ريعان الشباب أيضاً: لا تسمحى لهم بأن يدمروا موهبتك فيصبح لك زوجاً وبيتاً وأطفالاً تعيشين أسيرة الحياة اليومية وتموت موهبتك فى مقبرة الوهم.
اليوم الجمعة ٦ سبتمبر ٢٠١٣ أكتب من غرفتى فى فندق بريف النرويج، الشمس ساطعة دافئة تذكرنى بطفولتى فى قريتى بحضن النيل، لم أر أجمل من شمس سبتمبر فى بلاد النرويج، تختفى الشمس فى الشتاء ليل نهار، وفى الصيف تظهر الشمس ليل نهار، أما سبتمبر فهو نعومة الدفء ذاته وأجمل مراحل العمر.
دعيت لألقى كلمتى فى مهرجان أدبى بمناسبة مرور مائة عام على حصول المرأة النرويجية على حق الانتخاب، نيوزيلندا كانت أول دولة فى العالم تنال فيها النساء هذا الحق عام ١٨٩٣، تلتها فنلندا عام ١٩٠٤ رغم أن روسيا كانت تحتلها لكن النساء تغلبن على سلطة الاحتلال والحكومة الفنلندية معاً، نالت النساء حق الانتخاب عام ١٩١٣ فى النرويج، ثم جاءت فرنسا عام ١٩٤٤، من بعدها يوغوسلافيا عام ١٩٤٥، وسويسرا تأخرت إلى عام ١٩٧١، المرأة المصرية حصلت على هذا الحق عام ١٩٥٦ بقرار حكومى، بعد نضال طويل للنساء منهن «درية شفيق» عاشت أيامها الأخيرة وحيدة حزينة ثم ماتت منتحرة، قصة تتكرر للرائدات فى العالم، يدفعن حياتهن ثمناً لتحرير النساء دون أن ينلن حقهن فى التاريخ، دعيت مرة من المرات النادرة إلى مؤتمر طبى فى أوسلو، وكان رئيس المؤتمر طبيباً نرويجياً يمارس الجراحة والطب والموسيقى والأدب، قرأ إحدى رواياتى المترجمة إلى النرويجية فقرر دعوتى لأفتتح المؤتمر الطبى، اعتذرت أول الأمر وقلت له أنا لا أحب الأطباء ولا المؤتمرات الطبية، فأرسل إلىّ قائلاً، لهذا السبب بالذات أنا أدعوك لتلقى كلمة الافتتاح، الشخصيات النادرة فى العالم، هذا المزيج الساحر من العلم والفن.
جلست فى مقعدى فبل أن أصعد إلى المنصة ليس فى رأسى فكرة واحدة، حتى ظهر الموسيقى النرويجى على المنصة وعزف شيئاً على «الكمنجة»، فإذا بباب مغلق ينفتح فى عقلى، كم من أبواب تنغلق فى عقولنا منذ الطفولة، وأصبحت للنرويج فى ذاكرتى مكانة خاصة، تجمع بين الثراء الفنى والعلمى والأدبى، وتملك أيضاً ثراء مادياً هائلاً، وكان يمكن للعراق أو ليبيا أن تكون مثلها ومواردها من البترول لا تقل عنها، لكن ثراء العراق وليبيا يذهب للخارج وليس لأهلها.
فى هذا المهرجان الأدبى فى قرية أو مدينة اسمها «فردريك ستاد بالنرويج» بالقرب من الحدود السويدية، التقيت عدداً من الأديبات المبدعات من مختلف بلاد العالم منهن الكاتبة «سلافينسكا دراكوليك» من أهم المبدعات فى كرواتيا، تكتب الرواية الأدبية والبحوث العلمية السياسية، أهدتنى كتابها عن حياتها فى ظل الحكم الشيوعى عنوانه «كيف تجاوزنا الشيوعية وضحكنا» مائة وتسعين صفحة قرأتها فى ليلة واحدة فى غرفتى بالفندق، المطل على نهر «جلوما» تشق مياهه جبال النرويج وتهبط إلى تلك المدينة النرويجية الصغيرة.
أول مرة أزور النرويج منذ ثلاثين عاماً بالضبط، عام ١٩٨٣ مع صدور أولى رواياتى المترجمة إلى النرويجية، وتكررت زياراتى لهذا البلد الجميل الذى لا نعرفه إلا قليلاً، رغم أنه يعرفنا كثيراً.