معذرة لكل القلقين من «عودة النظام القديم» سواء كانوا من هؤلاء الذين يقولون إن «الإسلام هو الحل» أو الذين يطرحون فكرة أن «الديمقراطية هى الحل»، حتى ولو لم نعرف ما إذا كان الإسلام أو الديمقراطية ينصان على استبعاد أنصار القديم دونما معرفة على وجه الدقة ما هو «الجديد» الذى سوف يحل محله. الغموض فى هذه الحالة غير مفيد، بل إنه كان مضراً عندما أدى إلى قيادة المجلس العسكرى للبلاد دونما خطة واضحة للفترة الانتقالية، حتى أننا عشنا أطول فترة لـ«العك» الدستورى عرفتها البلاد فى تاريخها. وكان مضراً أكثر عندما تم تسليم البلاد- لمجرد الخوف من عودة النظام القديم- إلى جماعة أخذت البلاد خطوات نحو العصر العثمانى المتأخر مرة أخرى، بينما جماعات من الثوار كانوا يهاجمون مؤسسات الدولة العميقة فجاءتهم الحالة السرية لجماعة الإخوان «العميقة» هى الأخرى بأكثر مما يتخيل أحد فى الدولة، حتى كانت لها القدرة خلال عام واحد على بناء مؤسسات موازية للدولة، قادرة كما يظهر الآن على تهديد الدولة ذاتها خلال الأسابيع الماضية لولا لطف الله، وقدرة القوات المسلحة، ومؤسسات الدولة، ما ظهر منها وما خفى!.
ومع ذلك كله فإن القلق من «عودة الدولة القديمة» لايزال مشروعاً طالما أننا بصدد بناء جديد للدولة ممثلاً فى الدستور والمؤسسات المصاحبة له، ومن ثم فإن أمامنا مشروعاً تأسيسياً لدولة عنوانها «المدنية والديمقراطية والحداثة»، وهو الذى سوف يلغى ما كان قديماً فى الدولة، وتعريفه ذلك التراث الذى تولد عن الدساتير والقوانين التى تولدت خلال مشروع دولة يوليو بكل ما له وما عليه، وما كان فيه من فترات مختلفة من صعود وهبوط، وهزيمة وانتصار، وبناء وهدم. وأذكر أنه فى المحاولات التى جرت لإصلاح النظام القديم من داخله، فإن واحدة من أهم العقبات كانت وجود ٦٨ ألف تشريع فى الدولة يصعب الدخول فى غاباتها الكثيفة دون أن تفقد البوصلة والاتجاه.
كان ذلك فى أول الألفية الحالية، وأظن أن الحال الآن أكثر سوءاً، ومن ثم فإننا نحتاج إلى عملية جراحية لكى نضع مصر من خلال الجمعية الدستورية الحالية على أول الطريق إلى الدولة الجديدة. وهنا سوف أغامر بما كنت أطرحه لسنوات عديدة فى الصحف، وصدر فى أكثر من كتاب، وهو أن نأخذ مصر من يدها ونجعلها «دولة طبيعية» مثل تلك الدول التى تقدمت وسبقتنا على طريق «المدنية» و«الديمقراطية» و«الحداثة». والمهمة فى هذه الحالة هى التخلص من كل ما هو شاذ، وغير طبيعى، أو لا يوجد فى دولة أخرى من دول العالم سواء المتقدم أو المتأخر، الديمقراطى أو حتى الاستبدادى.
أهم الأمثلة التى ضربتها فى السابق كان موضوع المحاصصة الخاصة بنسبة العمال والفلاحين، وهذه رفعت فى الدستور المقدم إلى الجمعية التأسيسية، ومن ثم فإن الرجاء هو ألا تقوم الجمعية تحت أى من الشعارات أن تعيد أمراً لم تعرفه دول أخرى فى العالم فيها بالقطع عمال وفلاحين وتعرف مقامهم فى الدولة والمجتمع. الرجاء ممتد للتخلص من عدد آخر من المؤسسات التى هى التعبير الحى عن الدولة القديمة، فرغم الاحترام البالغ لكل أعضاء المجلس القومى لحقوق الإنسان، والمجلس القومى للمرأة، والمجلس الأعلى للصحافة، فإنها جزء أساسى من النظام القديم، كان هو الذى اخترعها للتغطية على عوار ما فى النظام، فعندما تكون المخالفة قائمة لحقوق الإنسان، فإن المجلس القومى يكون هو العلاج، الذى هو للأسف واجهة فى الداخل، وحائط أمام الخارج، خاصة لو كانت فيه مجموعة من الشخصيات المحترمة والعظيمة والحريصة على إصدار تقارير لا يهتم بها أحد. والحقيقة هى أن المجتمع نفسه قام بالمهمة وبنشاط بالغ من خلال جمعيات حقوقية مستقلة تحتاج دعم المجتمع والدولة بدلاً من الشكوى المستمرة من تمويلها الخارجى، ولكنها فى كل الأحوال صاحبة المصداقية، لأنها ببساطة مستقلة عن الدولة.
إذن فنحن لا نحتاج مجلساً لحقوق الإنسان، ولا مجلساً آخر لحقوق المرأة، فالواقع فى البلدان المتقدمة أن قضية «الحقوق» كلها هى مهمة مؤسسات الدولة كلها سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، حيث لا تجوز الإفتاءات على حقوق لا الإنسان ولا المرأة ولا أيا من كان من مواطنى هذا الوطن مهما كان لونهم أو دينهم أو جنسهم أو اعتقادهم. مجلس المرأة هنا لا يزيد عن كونه غطاء لعورة النظر إلى المرأة باعتبارها إما فتنة أو عاراً من نوع ما، ولعورة المجتمع فى قيام جماعات وأفراد منه بالتحرش الجنسى، والتمييز ضد المرأة فى المؤسسات العامة. المجلس القومى هنا يحاول تعويض المرأة ببساطة عن تطبيق القانون فى تحقيق المساواة من خلال مؤسسة لا تملك الكثير من أمرها، طالما أن باقى مؤسسات الدولة التى تملك القدرة لم تقم بمهامها.
المجلس الأعلى للصحافة والإعلام، وأياً ما سوف تكون التسمية فى الدستور، وبغض النظر عن القامات العالية فيه، وحتى المقترحات النبيلة التى قدمها نقيب الصحفيين الأستاذ ضياء رشوان، والصديق العزيز صلاح عيسى، والتى أتفق معها كلها لو كانت هى البديل الوحيد، فإننا نغفل أصل القضية وهو أن لدينا مجلساً تنفق عليه الدولة، وتقدم له المكافآت والرواتب وتخصص له- مثل مجلس حقوق الإنسان ومجلس المرأة- جزءاً من الموازنة العامة للدولة، بينما تعرف دول العالم الأخرى مصدرين يقومان بالمهمة الخاصة بحماية الحقوق، وهما مؤسسات الدولة التى أقسمت على أن ترعى مصالح الشعب رعاية كاملة، والنقابات والجمعيات الأهلية التى عليها أن تدافع عن الحقوق، بما فيها حرية التعبير والحقوق الصحفية والإعلامية المعروفة.
النظام القديم ليس جماعة من الأفراد تستنفر عروق جماعات منا، لأنهم كانت لهم صلة ما بالنظام القديم، عندما يظهرون فى الفضائيات التليفزيونية. النظام جوهره ما هو أخطر من المؤسسات والقوانين والتشريعات، وفوق ذلك وبعده بيروقراطية مدنية وعسكرية قوامها سبعة ملايين يشكلون أكبر حزب سياسى فى البلاد جعل نفسه والدولة صنوان، بعد أن جعل من مؤسساته أدوات للسيطرة. ولم تكن هناك مصادفة أن جماعة الإخوان أبقتها على حالها لكى تمارس من خلالها الهيمنة السياسية تحت غطاء دينى. وحتى النخبة السياسية لم تقترح مرة فى زخمها الثورى أن تطلب إلغاءها حتى تحقق هدفها فى التخلص من النظام القديم.
بقى أمر بالغ الحساسية، وهو جزء مهم من النظام القديم، والنظام الأقدم منه، وهكذا حتى نصل إلى العصور الفرعونية ولحظة قيام الملك مينا بتوحيد القطرين، وعندما نتخلص منه سوف نتخلص من كل النظم القديمة (والكتب القديمة وكلامنا المثقوب كالأحذية القديمة حسب قول نزار قبانى رحمه الله) هذا الأمر هو الطبيعة المركزية للدولة المصرية التى خلقت خللاً أصيلاً فى توزيع الموارد (والموازنة العامة فى قلبها) فى الدولة، بحيث جرى التفاوت الرهيب بين القاهرة وشمال البلاد، وجنوب الجيزة والأطراف فى سيناء والصحراء الغربية. أعرف أن الفارق فى عدد السكان جعل الضغط السياسى يجرى دائماً (٦٠ مليوناً إلى ٢٤ مليوناً تقريباً) من الشمال، ولكن الفارق لا يبرر بعد الشقة فى توزيع الثروة والفقر. سوف نعود لهذا الموضوع مرة أخرى ولكن من يريد ألا يرى النظام القديم مرة أخرى فهذا ما وجب فعله، أما إذا لم نفعل شيئاً فمعنى ذلك أننا نحب النظام القديم وأدواته، وليس مهماً من يحكمنا بعد ذلك، وبأى طريقة، فسوف تكون النتيجة واحدة!!.