القصر العالى ذو الأسوار العالية. والجموع المحتشدة أمام بوابة القصر لا يُسمح بدخولها إلا للسعداء.
القصر الغامض يلوّح أحيانا، ويُحجب أحيانا بلا تفسير. يقولون إنه معجزة الحياة! ويقولون إن من دخله لا يفكر فى مغادرته! ويتحدثون عن أشجار الفاكهة التى تلوح قممها خلف الأسوار، وتحمل الرياح أحيانا أصداء موسيقى شجية تُطرب الروح.
حينما يتذكر الأشخاص الذين سُمح لهم بالدخول، يجد أنه لا رابط يجمع بينهم. يدخله الأغنياء كما الفقراء، والصغار كما الكبار، والرجال كما النساء، لكنه يجهل قواعد الدخول.
وذات صباح شتائى مشمس، بدت فيه الطبيعة وكأنها تحتفل. العصافير تغرد فى صفاء، ونسمة هواء باردة منعشة، وزخة أمطار غسلته من الأعماق. وفجأة لاح له القصر كما لم يقترب يوما. كان قد اعتاد ظهوره واختفاءه دون تفسير. اقترب حتى لامس البوابة، وسمع هاتفا يخبره أنها فرصته الوحيدة ليندرج فى جملة السعداء.
لكن البوابة ضاقت، وكأنها ثقب الإبرة. حاول أن يحشر جسده بلا فائدة. قال له الحارس إن عليه أن يستوفى بعض الإجراءات التى لا مفر منها قبل أن يُسمح له بالدخول. وقال له أيضا إنه لن يدخل القصر إلا حين يتعرف على وجهه الحقيقى الذى يستحق شرف الدخول.
بدا له الكلام أشبه بالألغاز. أخرج من حافظته بعض الصور الشخصية، وأعطاها للحارس الذى أعادها له، قائلا إن هذه ليست صورته الحقيقية، وما زال أمامه الكثير كى يعرف ويفهم ويذوق.
تملكته الحيرة المستعصية! قال لعله يقصد صوره القديمة قبل أن تبدله السنون! هذه صورة طفولته: الغفلة السعيدة عن أكدار الزمان، أذلك هو وجهه الحقيقى؟. وهذه صورته وهو مراهق يتطلع لنصيبه العادل فى الحياة! أذلك هو وجهه الحقيقى؟. أم لعلها صورته وهو شاب يظن أنه سيقهر العالم! أذلك هو وجهه الحقيقى؟. أم هى صورته بعد أن كبر وظهرت نظرة الفهم الحزينة فى عينيه! أذلك هو وجهه الحقيقى؟.
قال له الحارس:«كلها مزيفة. ابحث عن وجهك الحقيقى ثم عد إلى هذا المكان». ثم قال بلهجة نهائية: «هذا القصر لا يدخله إلا الصادقون».
أنفق الليالى يناجى النجوم. يبسط الصور أمامه ويتأمل. كلها وجوه فى حياته، ولكن شد ما غيرتها السنون. لشد ما أتعبها وأتعبته! ونال منها ونالت منه! فأين وجهه الحقيقى الذى يستحق أن ينال شرف الدخول؟.
■ ■ ■
وأخيرا، لم تكن أكثر من مصادفة حين أصابه وجع دفع الطبيب إلى طلب الأشعة. حينما شاهدها فُوجئ بأن وجهه اختفى وملامحه تلاشت، ولم تتبق إلا صورة الجمجمة بابتسامتها الساخرة التى تذكره بالموت! هذا هو الوجه الحقيقى، الملازم لنا فى كل وقت، والباقى بعد أن يموت الإنسان.
حينما أدرك أن الجمجمة هى وجهه الحقيقى فهم أنه مخلوق للموت كما هو مخلوق للحياة. وقتها أبصر الحياة على هُدى ضوء جديد. فإذا به يعيش نصيبه المقسوم من الحياة فى تواضع، ويسير على الأرض هونا، ويقول للجميع: سلاما.
وفجأة وجد نفسه يمر من بوابة القصر كأنه طيف أو نسيم! ابتسم له الحارس وتركه يمر، وسرعان ما وجد نفسه بين أشجار الفاكهة العالية وأمواج الموسيقى الباطنية.