«احذر منه، إنه لا يحب الموسيقى»، عبارة لا تنسى لوليم شكسبير تكشف أن الإنسان ليس فقط بما يمارسه من أفعال ويعلنه من أقوال، لكن السلوك الشخصى حتى ولو كان يبدو للوهلة الأولى عابرًا فإنه يشى بالكثير.
يحتل حزب النور حاليا داخل دائرة النظام بعد ثورة 30 يونيو مساحة لا يمكن إغفالها فى صناعة القرار السياسى، دائمًا هم لديهم حضورهم فى اللحظات الأخيرة، وفى القرارات الحاسمة، ومنذ التشكيل الوزارى وهم دائما يرفضون حضور المرأة فى المشهد مثلما اعترضوا على تعيين د.إيناس عبد الدايم وزيرة للثقافة، كما أنهم يخلطون بين الليبرالية والإلحاد، وفوق وبعد وقبل كل ذلك يكرهون بل يحرمون الموسيقى.
أتذكر قبل نحو عام جمعتنى ندوة مع أحد أبرز الوجوه الإعلامية لحزب النور نادر بكار، وهو يقدم نموذجًا عصريًّا للسلفى الذى لا يغادر يده الآى باد، ويتحلى بقدر لا ينكر من المرونة، لكى يصدر للناس وجهًا عصريًّا من الممكن تقبله للسلفى المستنير، سألته مباشرة عن رأيه فى مطلع قصيدة أبو القاسم الشابى التى حركت الشعوب فى عالمنا العربى لتعلن ثورات الربيع «إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر»، قلت له هل تبيحها؟ فراوغ ولم يجب بالرفض أو الموافقة، كنت أعلم بالطبع أن السلفيين وقطاعًا وافرًا من الإخوان يعترضون عليها بسبب «فلا بد أن يستجيب القدر»، فهم يطبقون المعايير المباشرة التى ترى أن الشاعر يتحدى القدر بعيدًا عن الظلال الشاعرية التى تعلى من شأن إرادة الشعب، ولا تعنى على الإطلاق الاقتراب من المشيئة الإلهية، التزمت فى الرؤية وفى العلاقة مع الحياة هو الذى يحدد توجهاتهم، السلفيون يرحبون على مضض بالغناء، لكن دون استخدام آلات موسيقية هم يحللون فقط الآلات الإيقاعية.
أتذكر فى إطار الاحتفال بثورة 25 يناير طلبوا من رامى جمال وعزيز الشافعى تقديم أغنيتهما «يا بلادى» وافق المطربان من حيث المبدأ على الغناء دون موسيقى.
مثل هذه المحرمات ليست جديدة بالطبع على حياتنا الفنية والثقافية، ودار الأوبرا المصرية على سبيل المثال كثيرًا ما اضطرت منذ إنشائها وعلى مدى 20 عامًا إلى تغيير كلمات عدد من الأغانى التراثية خوفًا من تأوليها دينيًّا، والحقيقة أن أغلب أغانينا معرضة فى حالة خضوعها للمرجعية الدينية لمواجهة نفس المصير!
رامى وعزيز من حيث المبدأ يوافقان على تقديم أغانٍ بلا موسيقى، وذكرا أن محمد فوزى سبق وأن فعلها فى أغنية قديمة له، وهى «كلمنى طمنى» التى كتبها حسين السيد، والواقع أن الخلط بين الأمرين يدل على أن أخطر ما يواجه الحالة الفنية فى مصر ليس سيطرة الفكر الرجعى، لكن لأن الوسط الفنى والثقافى يبدو أنه غير مؤهل للدفاع عن حرية الفن.
محمد فوزى عندما غنى بدون موسيقى لم يخضع لرغبة دينية حالت بينه وبين استخدام الموسيقى. هذا اللحن له قصة حقيقة وأخرى مختلقة، وفى النهاية لا علاقة للقصتين بتحريم الموسيقى.. الأولى المختلقة هى أن الفرقة الموسيقية التى كانت تستعد لتسجيل الأغنية طلبت أجرًا مبالغًا فيه، ولم يستطع فوزى أن يلبى طلبها فانسحبوا، فقرر أن يلقنهم درسًا فسجل الأغنية فى نفس اللحظة مستعينًا بأصوات الكورال بديلًا عن الآلات الموسيقية، وهى حكاية وجدت رواجًا عند عديد من الموسيقيين وحتى الآن رغم أنها من المؤكد تجافى الحقيقة التى من المفروض أن يعلمها الموسيقيون وهى أن فوزى صنع بناءً موسيقيًّا من أفراد الكورال قائمًا على تباين وخصوصية أصواتهم، وهذا الشكل الغنائى يحتاج إلى دراسة ودراية علمية متخصصة، ويتطلب عشرات من البروفات حتى يصل إلى تلك الحالة الرائعة التى سجل بها الأغنية ولا تخضع مطلقًا لعشوائية اللحظات الأخيرة. ما فعله فوزى فى تلك الأغنية الاستثنائية ليس له علاقة بتحريم الموسيقى.
من يلقى بقنبلة ومن يمسك مدفعًا ومن يخطط لاغتيال الناس ويبيح إراقة الدماء ستكتشف أنه لا يمكن أن يحب الموسيقى، عندما حمل ملك الرومانسية المطرب فضل شاكر الكلاشينكوف، وانضم إلى الفصيل العسكرى للسلفيين فى لبنان، الذى يقوده أحمد الأسير كان أول ما فعله أنه تبرأ تمامًا من ماضيه الغنائى وحرم الموسيقى وانهال بالتجريح على كل زملائه. نبذ العنف يبدأ بأن نزرع أولا فى القلوب حب الموسيقى؟