كانت مصادفة عجيبة أنى دخلت سوريا فى رحلة صحفية عام 2005 فى نفس اليوم الذى دخلت إليها فيه لجنة ميليس للتحقيق الدولى فى مقتل الرئيس اللبنانى رفيق الحريرى.. كانت الأجواء متوترة للغاية فى الشارع السورى، والكل ينتظر ضغوطا وعقوبات وربما ضربات أمريكية مفاجئة تحت الحزام.. منذ سنوات ورائحة العداء والحرب فى شوارع دمشق، ودائما الرياح التى لا تشتهيها السفن، تأتى من الناحية الغربية.. من ناحية أمريكا بالذات! الفاتحة للحسين يحفظ سوريا من الحرب والضرب والنار وخراب الديار.. آمين.
إنت دعيتنى.. وأنا لبيت.. جيالك.. جيالك يا حسين... تماما مثل الست أمينة «زوجة سى السيد فى ثلاثية نجيب محفوظ» بينى وبين سيدنا الحسين عمار من زمان، وعلاقة حب فريدة، وعشم جامد، وسر باتع، وود صافى لله فى لله.. «شى الله يا أهل بيت النبى الطيبين». وقد دعانى الحسين لزيارته، فإذا بى وأنا فى رحلة لسوريا، ولا على الخاطر ولا فى النية، أجد نفسى، على غير موعد أو ترتيب، واقفة أمام باب مفتوح، على الجانب الأيسر من ساحة رخامية فسيحة ملساء هى ساحة الجامع الأموى القديم بدمشق. وعلى الباب يافطة كتب عليها «مقام الشهيد الحسين بن على «رضى الله عنه» ولأول مرة أكتشف، أن لسيدنا الحسين مقاما آخر غير مقامه ومسجده عندنا فى القاهرة. يقال إن أشلاء جسده الطاهر جمعت هنا فى سوريا، ويقال إن رأسه الشريف هو الذى استقر فى مصر، دخلت لمقام الحسين، وعلى شباكه الفضى وقفت أقرأ الفاتحة، بعدها تفحصت عينى النظافة الفائقة، فى الزوايا والحوائط والأركان، والأرضية المفروشة بالسجاد الأخضر، وتنسم قلبى الأمان والسكينة فى رائحة الهواء المبخر والمعطر. من خلف الزجاج كنت أرى المقام المكسو بالحرير محاطا بعدد كبير من الشموع وقطع الحلوى ومئات العملات الفضية والورقية، التى ألقى بها الناس لداخل المقام، بطريقة لا أعرفها حتى الآن. فرق شاسع بين مقام الحسين فى سوريا، ومقامه عندنا فى مصر، هناك لا يوجد متسولون، ولا نساء تتسامر وتأكل، وتترك بقايا الخبز والبلح بين وبر السجاد على الأرض، تحت جباه وأقدام المصلين. حتى الأطفال هناك مظهرهم نظيف وأنيق لدرجة تسترعى الانتباه، وجميعهم يتصرف فى هدوء ويتحرك بحساب كأنه مدرب سلفا، على التعامل بشكل خاص، مع مثل هذه الأماكن، على شباك الحسين عشرات من شرائط القماش المعقودة، وجدائل الخيوط المربوطة رمز للندر، وأثر لفك العكوسات وتيسير الأحوال، أو استبشار، بقبول الدعاء ومجىء الفرج القريب. هذا على حد اعتقاد بعض النساء الزائرات للمقام خصوصا الإيرانيات منهن والعراقيات. أما أنا فقد خرجت من المقام منشرحة الصدر مجبورة الخاطر، أتوقع الخير والبركة لباقى أيام الرحلة، وبالفعل انكشفت العمة وزال البلاء وانتهت إقامتى فى فندق «آلاء»! وهو عاديكم، وربنا لا يوريكم، غالى جدا وردىء جدا، وغرفة سياحية أكثر من اللازم، فهى سيئة لدرجة تحرضك على قضاء اليوم كله متجولا فى الشوارع، ولا تعود لفراشك إلا مضطرا، ولا تمكث به إلا أقل القليل! عندك مثلا غرفتى التى كانت أشبه ما تكون بالصندوق المغلق من كل الجهات وأقرب ما تكون للقبر المعد سلفا لتعذيب أبرهة الأشرم أو مسيلمة الكذاب، لم يكن بها أى شباك أو منط على مسقط أو فتحة هواء.. ولو نشب حريق فلا مفر ولا مهرب ولا محيص. هذا بخلاف جهاز التكييف العطلان، وباب الثلاجة المخلوع، وتليفزيون صغير أبيض وأسود بيعمل «وش ش ش..»، مشاركا الرطوبة الخانقة، وبعض الصراصير الطائشة، فى حملة إجلائى عن الغرفة بكل الطرق والكبارى، ولولا بركة الحسين، ما كنت خرجت من هذا الجحر سليمة، بغير سوء ولا جرب، إلى حيث دلنى رجل حلبى طيب، على غرفة بديلة فى فندق ممتاز، متميز الخدمة والمستوى وبأقل من نصف تكاليف الإقامة فى فندق «آلاء»، لعنة الله عليه وعلى من دلنى عليه.. ولكن ماذا فعل؟ الغريب أعمى ولو كان بصيرا، ووجود غرفة خالية، فى فندق سورى، فترة الموسم السياحى الصيفى، شىء فى حكم العنقاء والخل الوفى، والرجل المخلص، والسعادة الزوجية، والوحدة العربية، وتحرير فلسطين.. ويروى فى ذلك أن جحا سافر إلى دمشق، وفقد حماره فى السوق، فأمضى النهار كله يبحث عنه دون أن يجده، وحين حل الليل قرر أن يبيت فى أى فندق، ليكمل البحث فى اليوم التالى، لكنه لم يجد غرفة واحدة خالية فى أى مكان، فذهب لصاحب أحد الفنادق يترجاه.. قال له صاحب الفندق: ليس عندى إلا غرفة لعريس وعروسة فى شهر العسل، وهما الآن يتنزهان بالخارج، فهل تدخل وتنام تحت السرير؟ وافق جحا مضطرا، حتى دخل العريس مع عروسه فى نصف الليل، وجلس العريس على السرير ينظر فى عيون عروسه ويغازلها بقوله: حبيبتى.. حين أنظر فى عينيك.. أرى الدنيا كلها أمامى، فخرج جحا من تحت السرير بسرعة يقول: «دخيلك.. حمارى ضايع.. ممكن تبص فى عنيها تانى وتشوفهولى وين؟!!».