كان توفيق صالح، وما أصعب بداية الحديث عنه بفعل كان، من المثقفين والفنانين القلائل الذين يحرصون على استقلالهم ولا يساومون على فنهم. وهو أمر كان يستطيع معه مواصلة الإبداع كما يشاء لو كان يعمل فى حقل آخر غير الحقل السينمائى. لأن السينما، وهى كفن المسرح وإن كانت أكثر منه جمعية، فن جمعى مركب، وصناعة تجارية فى الوقت نفسه، وهذا ما يجلب إلى الفاعلية فى عالمها عددا كبيرا من العوامل، يجعلها فن المساومات دون نزاع. فكيف يتعامل مثقف مبدئى وفنان يقدر قيمة الفن ولا يقبل المساومة على شروطه معها فى عالم يموج بالضغائن، وشره الكسب الكبير الذى توفره صناعة السينما. لذلك عانى كثيرا بسبب ذلك برغم تميز أفلامه، وقدرته على أن يشق بالكاميرا والصورة طريقا جديدا وفريدا للسينما المصرية. وآثر أن يعمل بتدريس السينما لقاء قروش قليلة، على أن يساوم على فنه لقاء آلاف من الجنيهات.
وأذكر أننى كنت أتعلم منه الكثير عن عالم السينما عامة، والسينما العربية خاصة، كلما تناقشنا فى هذا الموضوع، حيث كان النقاش معه يكشف لى عن البنية التحتية لتطور فن السينما العربية على مستوى الفن والرؤية على السواء. وكانت لديه قدرة خارقة على قراءة محتوى صيرورة الشكل فى السينما العربية، ودلالاته الفكرية من ناحية وعلى موضعة تلك المسيرة فى سياقاتها الثقافية والتاريخية على السواء. فقد كان فيما يبدو مدرسا قديرا، لأنه صاحب فهم عميق لموضوعه، وقدرة على توصيل هذا الفهم للآخرين. بمعنى أنه كان ينطلق فى أى تناول للسينما من فهم نظرى واضح ترفده الخبرة العملية والمعرفة الموضوعية الواسعة. فلم يكن توفيق صالح ككثيرين ممن لبوا متطلبات السينما كتجارة وصناعة فى المحل الأول، وهما أمران مهمان فى هذا الفن المركب، من الذين خرجوا من أروقة الإنتاج أو العمل الحرفى فيها، وتدرجوا فى «المهنة» من خلال التدريب على أيدى روادها الأوائل. ولكنه كان من القلائل الذين جاؤوا إليها من خلفية ثقافية وتعليمية راقية. وفرتها له طبقته الاجتماعية التى ولد فيها، والمدينة/ الحاضنة الثقافية الراقية التى نشأ بها.
فقد ولد توفيق صالح فى الإسكندرية فى 27 أكتوبر عام 1926 لطبيب كان يعمل بالحجر الصحى فيها، أيام كان الأطباء من علية القوم. وحينما كانت الإسكندرية بحق عروس البحر الأبيض المتوسط. مدينة كوزموبوليتانية بالمعنى الكامل للكلمة، يثريها تعدد اللغات والثقافات وتجاور الأعراق والرؤى فيها. لم تكن الإسكندرية فى العقود الأولى من القرن الماضى، كما هى عليه الآن، مدينة تحاصرها العشوائيات والقذارة ومنتجعات الفساد الفظة، والتخمة البليدة التى تنهش أطرافها كاشفة عن سفه الثراء السهل والفقر المدقع معا، وإنما كانت أحد أبرز حواضر المتوسط، لا تقل رقيا ونظافة وجمالا عن أرقى المدن الأوروبية. ولأن وسيلة المواصلات الأساسية فى القرن التاسع عشر وحتى نهاية العقد الرابع من القرن العشرين كانت السفينة، فقد كانت المدينة مرفأ وصول كل الأجانب الذين يفدون لمصر، وأكثرهم من الأوروبيين ومستقر جاليات كبيرة منهم. لأن المهاجر يميل عادة إلى الاستقرار فى بلد الوصول. وهذا هو السر فى أن عدد الأجانب، من الأوروبيين خاصة، فى الإسكندرية كان أكبر من عددهم فى القاهرة.
ولأن الأجنبى يقيم فى بلد الوصول مستقرا أو مشروعا على غرار ما تركه وراءه، أو ما حلم بتشييده فى بلده ولم يستطع، فقد كانت المدينة مليئة بالمقاهى والفنادق والمطاعم والمدارس التى تضاهى أرقى ما تركته الجاليات الإيطالية واليونانية والفرنسية والبريطانية وراءها فى بلدانها الأصلية. وكانت فيها جاليات أجنبية تعيش جنبا إلى جنب مع أبناء المدينة الأصليين، فى مناخ ثقافى ثرى يعرفه من قرأ قنسطنطين كافافى أو رباعية لورانس داريل الشهيرة عنها «رباعية الإسكندرية». وكان توفيق صالح ابن الشريحة العليا من الطبقة الوسطى المصرية، وأهم ما تحرص عليه الطبقة الوسطى المصرية هى أن توفر لأبنائها أرقى ما تستطيع من تعليم، فذهب منذ نعومة أظافره إلى مدارس الجاليات الأوروبية الراقية التى وفرتها له المدينة، ثم إلى كلية فيكتوريا الشهيرة بها. وما أن أكمل تعليمه الثانوى بها حتى كان طه حسين قد أسس أحد أهم صروحه الثقافية الكبرى فيها، والتى وضع أسسها فى كتابه الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر» 1938، ألا وهو جامعة الإسكندرية.
وكانت جامعة الإسكندرية، التى أسسها طه حسين عام 1942 وكان أول مدير لها، تضاهى أرقى الجامعات الأوروبية على الضفة الأخرى من المتوسط. فقد أسس مشروعه الثقافى الذى بلوره فى كتابه الشهير ذاك على الحوار الخلاق بين ضفتى المتوسط، وعلى ضرورة التوجه ثقافيا ومعرفيا صوب الضفة الأوروبية الأخرى. وعلى العكس من مثقفى عصر الانحطاط الجهلة، وأعلام حظيرة فاروق حسنى وتابعه الهمام جابر عصفور وغيرهما من مثقفى حرملك عصر مبارك المخلوع، الذين تصور بعضهم أنهم يقومون بدوره التنويرى فى عصر الهوان والتبعية الذى ثارت عليه مصر فى 25 يناير؛ كان طه حسين على معرفة حقيقية وليست قشرية بما يدور فى الضفة الأخرى من المتوسط، وعلى اتصال فعلى بكبار مثقفيها الذين طلب منهم أن يرشحوا له مجموعة من أنبه شبابهم للعمل فيها. ويكفى أن تعرف أن جامعة الإسكندرية الوليدة استقطبت بفضله للتدريس فيها آنذاك مجموعة من أفضل شباب أوروبا الذين أصبح لهم شأن كبير فى ثقافاتهم فيما بعد. فقد عمل فيها أ.ج. جريماس ورولان بارت وميشيل فوكو فى بواكير شبابهم، كما عمل فيها الشاعران والكاتبان البريطانيان الشهيران روبرت جريفز وجون هيث ستبس. فى هذه الجامعة، التى كانت جامعة بكل معنى الكلمة، درس توفيق صالح الأدب الإنجليزى، وكان من مجايليه فيها عدد ممن سيصبحون أعلاما مرموقين فى قابل الأيام مثل مصطفى صفوان ومحمد مصطفى بدوى ومحمود المنزلاوى ومحمود مرسى وإدوار الخراط وألفريد فرج وغيرهم. وقد كشف توفيق صالح عن ولعه بالفن وهو لا يزال طالبا بجامعة الإسكندرية، عندما أخرج فى سنته الأخيرة بها مسرحية توفيق الحكيم «رصاصة فى القلب»، والتى برهنت عن موهبته الفنية حينما عرضت فى مسرح جمعية الصداقة الفرنسية، فعرض عليه رئيس قسم الأدب الفرنسى بالجامعة منحة لدراسة المسرح فى فرنسا. ولكنه طلب أن يدرس السينما بها بدلا من المسرح، حيث كان قد بدأ يتصل أيضا بعالم السينما، ويعمل مساعدا لأحد مخرجيه وهو حسين فوزى. وما أن أنهى دراسته الجامعية عام 1949 حتى سافر إلى فرنسا لدراسة السينما بها فى 1950.
وسنواصل الرحلة معه في المقال القادم.