منذ حوالى عشر سنوات، حين كنت أعمل بمؤسسة كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك)، كان لى زميل وصديق من مواطنى يوغوسلافيا السابقة. كان مهتما بالسياسة كثيرا رغم عمله فى المجال العلمى، وذلك نتيجة تجربته اليوغوسلافية بالطبع، حيث تقسّمت بلاده ووقعت فى فخ الحرب الأهلية. وبعد قراءة دقيقة لبعض المقالات المنشورة فى الصحف المصرية الناطقة بالإنجليزية والفرنسية، جاء لى يخبرنى بوجه مهموم بأنه يريد أن يتحدث معى فى موضوع مهم.. اعتقدت فطرياً فى البداية أنه يتعلق بأحاديثنا المشتركة فى المجال العلمى، لكنه قال إن الموضوع يتعلق بمصير مصر.
لأنه ظن أنه لاحظ نقاط تقابل خطيرة بين وضع المجال العام المصرى آنذاك وحالة المجال العام فى نهاية ما كان يسمى دولة يوغوسلافيا! لاحظها ولخصها كالآتى: أولا: فى طول فترة حكم الديكتاتور تيتو الذى همش عبر عقود كل قوى المعارضة الفعالة فى بلاده، رغم أن حكمه لم يكن شمولياً بشكل يقترب من بقية نظم أوروبا الشرقية.
ثانيا: فى حرية الرأى والتعبير فى ظل فترة الحكم التسلطى «اللاشمولى»، التى لم تترجم لعملية سياسية رصينة تصون حرية الحركة والعمل فى سبيل التغيير.. ثم بعد أن توفى «تيتو»، طفت كل التناقضات على السطح، وكان أخطرها تداعيات تعوّد «المثقفين» والنخبة عامة، فى ظل نظامه الأزلى، على اتخاذ مواقف علنية عنفوانية زاعقة ولا عقلانية، وتلك لم تكن متاحة فى ظل النظم الشمولية المطلقة، إنما كان هناك براح ورواج فى ظل نظام «تيتو»، المتسامح عالمياً والمنغلق سياسياً.. فعندما يعرف المرء أنه لن يدفع ثمناً غالياً فى تبنى تلك المواقف، وأنها أيضا لن تترجم عملياً، لأنه يعرف أن هناك سلطة «أبوية» ستفعل ما تشاء فى كل الأحوال، «يأخذ راحته» فى اتخاذ مواقف غير مسؤولة.. وبالذات عندما تكون هذه المواقف «الجريئة» والرافضة لواقع مرفوض لدى الأغلبية، وتعتبر أداة للإعلاء من شأن من يتبناها، بل أحيانا فى مثل هذه الظروف، تجعل من التافه بطلا، رغم أن الكثير منها قد يكون مدعوما من هذا الواقع ونظامه السياسى، بل خاضع لأجزاء من الدولة المتصارعة داخليا بطريقة أو بأخرى.
على حسب رأى الزميل المذكور، فإن ما حدث فى يوغوسلافيا بعد وفاة «تيتو» يتمثل فى أن بعض الساسة قاموا باستغلال هذا المناخ فعليا، بتطبيق ما جاء فيه من أفكار رائجة وناجحة فى عصر التهافت، فانعكست على العصر الذى تلاه.. وتوقع أن شيئا مماثلا سيحدث فى مصر عند «وفاة مبارك».
رغم الفروق الكبيرة بين حالتى مصر ويوغوسلافيا السابقة التى ناقشتها معه (متعارضاً معه)، فقد تذكرت ملاحظاته خلال السنين الأخيرة، خاصة عندما وصلت بنفسى «بطريقة مستقلة» إلى أن الأسلوب الذى كان يتعامل التيار الإسلامى به مع بقية المصريين لاحقا هو نفس الأسلوب الذى تتعامل به الحركات القومية مع الأقليات من القوميات التى ربما لها على (الأكثر) حقوق محدودة فى ممارسة نمط حياتها المعتاد، لكن ليس لديها الحق فى المشاركة فى سرد طبيعة وهوية البلد كما يعرفها الدستور مثلا.
أما الأهم فإن الخطاب «المعارض» الزاعق المتطرف اللامعقول، الذى تكلم عنه الصديق المذكور، ساد كل الطوائف السياسية والثقافية المصرية تقريبا، فلم يقتصر على تيار الإسلام السياسى، بل شمل تقريبا كل المجال العام المصرى.. وعملية محاولة تطبيقه مازالت جارية حتى الآن، بنتائجها الكارثية المتوقعة، بل الأدهى أن قراءات صديقى لما تكتبه مصر كانت مقتصرة على الصحافة المنشورة بلغات أجنبية، وهذه فى المجمل تحتوى على أرقى ما ينتجه المجال المصرى، بل إن بعض ما يكتبون فيها لا تروق لهم المشاركة فى الصحافة الناطقة بالعربية، لأنهم يعرفون المجال العام المصرى جديا.. يعرفون أنه شرس، ومشبع باتهامات غريبة عن العمالة للداخل والخارج، وعن الشراكة فى مؤامرات جهنمية لا يمكن أن يخترعها إلا عقل يعيش فعلا فى مجال يسوده الغموض وتنتشر فيه الصراعات والتحالفات السفلية.
النتيجة النهائية أنه رغم وجود العقول المفكرة المستقلة والصادقة والرصينة، فهى لا تصعد عامة. فربما كان يمكن فى الماضى اعتبار ذلك نتيجة مباشرة لاختيارات نظام مبارك، لكن المشكلة تبدو أعمق... فالوضع الفكرى المسيطر خلال العقود الماضية أدى إلى «تصفية» كل ما هو جاد ومنهجى فى صالح ما هو متهور وزاعق وقليل القيمة من حيث الشكل والمضمون.. متحكم فى مجال عام لدولة على حافة الفشل، وبأعم منها فى بعض الأحيان.