أحب إحاطة قارئ كلماتى باتجاهات الرياح فى حياتى، من أفراحى وأشجانى إلى مزاجى وأمنياتى، إن صداقة القارئ الذى لا تعرفه تفرض هذا الالتزام! أنا - مثلاً - ينتشلنى من الهم العام، والهم الخاص: ترتيلة لفيروز، «أطلال» أم كلثوم، قصيدة لنزار قبانى، رباعية لصلاح جاهين، مربع للأبنودى، ترويقة لعادل إمام، «صهيل» لديانا حداد، تغريدة لغادة السمان، معزوفة للسنباطى، تلاطم أمواج، حفيف أشجار، زقزقة عصافير، شقشقة فجر، ساعة العصرية، أوراق وقلم! وبعد «تصحر» الحياة بفعل السياسة ومظاهرات الصباح والمساء، والعروق النافرة فى أمسيات الفضائيات، والصوت العالى والتلاسن اللفظى، اشتقت كثيراً لأحاديث النفس فى مرايا الذات، اشتقت للهمس، للنجوى، لاعتذار حبيب، لعتاب صديق، لدموع مناجاة، اشتقت للتخلص من الأقنعة والبشر بدون مساحيق، اشتقت للقلوب عندما تدق، والصدور حين تبوح، والأصابع حين تتشابك، كرهت السياسة والرقص فوق الجثث ومنصات النفاق والوجوه المتلونة والحناجر المستعارة والعيون الزجاجية، وأحمل فوق ظهرى تجربة أربعين عاماً، أو يزيد، على الشاشات، حيث خضت بحار «الصحافة المتلفزة» مبكراً، حاورت بشراً بلا حدود، بسطاء ومثقفين، أصحاب مشاكل ومسؤولين، «أنقياء» ولصوصاً، ساسة وصعاليك، رؤساء وزراء ووزراء وكتاباً ومفكرين ونجوماً وفنانين، سافرت العالم وراء خبر أو وراء مناسبة، سلطت الضوء على إنسان أو سحبت البساط من تحت قدميه، لهثت عمراً وراء الأخبار أحققها وأصوغ منها حكايات بعضها «مسلٍ» وبعضها يكوى النفس، كان الواقع يضغطنى بأسنانه، وكنت وأنا أقدم «حديث المدينة» على مدى عشرين عاماً، أشعر بالحنين لنوع من البرامج لا تصنعه أخبار المدينة، كنت أتمنى دخول قارة النفس البشرية، أقيم فيها وأفتش، وأتسكع وأنام على أرضيتها، وأغفو تحت ظلال أشجارها، كنت أريد الدخول إلى عوالم الآخرين فى ملاعبهم أى بيوتهم، وربما لهذا أهوى كتب السير الذاتية وتجارب الآخرين، وأكثر من حياة عاشها صاحب السيرة تمنيت لو قدمت سهرة أسبوعية وزيارة عائلية، أمشى على الشوك، وأعبر مزلقانات النفس، وأركب قطارات التجربة، تمنيت أن أرسو بعدساتى عند الضعف الإنسانى ومصادر القوة، كان لابد من «مفاتيح» للشخصية أجربها لأفتح القلوب المغلقة والصدور الموصدة، لم أكن أبحث عن اعترافات مخبوءة خلف الضلوع، بل أردت أن أرى الحجم الحقيقى من «مشاتل» (جمع مشتل) الطفولة إلى مهد الحياة بشمسها الحارقة ونتوءاتها الحادة، كنت أعلم أنى أبحث عن الآخر فى أى إنسان، وكنت أدرك أن السياسة قد تتسرب إلى جلستنا الحميمة، لكنى لم أسمح أن تفسدها أو تشد أعصابنا وهى مشدودة على مدى عامين سلفاً، ويوم تم «الإقصاء الناعم» لى من التليفزيون المصرى، بيتى، كنت أود «الاستئذان» على طريقة هيكل لولا دعوة فرسان قناة «دريم» لى لأنفذ حلمى الذى راودنى طويلاً، لقد سئمت برامج المشاكل والاحتياجات من تعليم متدن وصرف صحى غائب ومياه شرب ملوثة وغلاء أسعار ومصانع تحت السلم وغش الامتحانات وتقاعس محافظين وعناد وزراء واشتباك مؤسسات أرض أرض، ورحلة أوراق لا تنتهى، سئمت التكرار ومللت القضايا المتوطنة!
وبدأت - مع شباب متحمس - العمل، وأنا أعتز بأن نصف وزنى حماس، ولا أتمنى الشفاء من هذا «الجين» بأى هندسة وراثية! بدأت السياحة على شاطئ المشاهير وغير المشاهير أبحث وأنقب وأثقب الصمت، إن مشاهد هذا الزمان عبر تجربتى المتواضعة يبحث عن «الصورة» أى المعادل البصرى، وقبل ذلك يريد «الإيقاع السريع» وليس البطء الممل والمط البايخ، كان صمتى إحدى أدواتى كمحاور، فالصمت محرض على البوح، وفى كل إنسان «دور مسروق» على حد قول د. مصطفى الفقى، «وأبواب خلفية» ترقد فيها حكايات، تعمدت فى برنامجى الذى اخترت له اسم «مفاتيح» أن أذهب لضيوفى بباقة ورد، فمن يكره الورد فى الدنيا غير «الإخوان» بدليل ما فعلوه فى «جنينة الأورمان» من تدمير لأشجار نادرة، ماتت وهى واقفة! باقة الورد مقدمات بلغة الحوار، وتسخين بلغة الكورة، ولا أدعى الكمال لكنى حاولت أن أكون مختلفاً وحاولت الحوار بالهمس المسموع.. دون صياح! إن الناس هم «الممول» الحقيقى لوجودى كمحاور، إن كان لى «رصيد» فسوف أبقى فى الذاكرة On Line.